حين شح النيل وجف منسوبه ذهب أهل مصر إليها وقالوا لها:”إن منسوب النيل قد انخفض”فخلعت؛حجابها وطلبت من أهل مصر أن يلقوا به فى مياه النيل؛ففاض النيل!
كانت مقصدا للإمام الشافعي رضي الله عنه حين حط رحاله بمصر؛ومرجعا له في معضلات الأمور ومشكلات المسائل ..
وكان حين تقف عليه مسأله يرسل إليها قائلاً:
ما قولك في هذه يا بنت رسول الله .
وعندما اشتد المرض على الإمام أرسل رسوله إليها؛لكى تدعو له بالشفاء ..
فقالت لرسول الإمام:”قل للشافعي متعك الله بالنظر إلى وجهه الكريم” .
فأيقن الشافعي بقرب أجله فطلب القلم والدواه فكان مما كتب أن يدخلوا بجثمانه المسجى خلوتها فتكون هي أول من تصلى عليه الجنازة .
وحين مات الإمام كانت قولتها الشهيرة “رحم الله الشافعى فقد كان يحسن الوضوء” .
ولما علمت بمرور موكب”أحمد بن طولون”الذي ضج الناس من ظلمه خرجت إليه، فلما رآها نزل عن فرسه، فأعطته الرقعة التي كتبتها وفيها: «ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخوّلتم ففسقتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفاذة غير مخطئة لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوّعتموها، وأجساد عرّيتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلِّمون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون»فعدل الخليفة عن ظلمه؛و فاء إلى رشده!
إنها نفيسة العلم والأسرار سليلة العترة الشريفة حفيدة المختار.
تلكم السيدة الطاهرة المجاهدة بالحال والمقال..زينب عصرها؛ودرة مصرها؛ساكنة رمسها؛من علا في مصر مجدها؛وذاع واشتهر صيتها .
بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب سلام الله عليهم .
ولدت في مهبط الوحي في مكة المكرمة في ١٢ ربيع الأول عام ١٤٥ هـ، وأمها زينب بنت الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب .
وقيل أن أمها أم ولد، وأن زينب أم إخوتها .
انتقل بها أبوها إلى المدينة المنورة وهي في الخامسة حيث مسجد ومرقد جدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانت تذهب إلى المسجد النبوي الشريف وتسمع إلى شيوخه، وتتلقى الحديث والفقه من علمائه . حتى لقبها الناس بلقب «نفيسة العلم» قبل أن تصل إلى سن الزواج .
يروى أنه قبل زواجها تقدم إليها “إسحاق المؤتمن” يخطبها من والدها فصمت والدها ولم يرد عليه جوابا فقام إسحاق من عنده ودخل الحجرة النبوية الشريفة وتوجه إلى النبي وقال بعد السلام يا رسول الله إني خطبت نفيسة بنت الحسن من أبيها فلم يرد جوابا وإنني لم أخطبها إلا لخيرها ودينها وعبادتها ثم خرج من الحجرة النبوية الشريفة فرأى والدها النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال له “يا حسن زوج ابنتك نفيسة لإسحاق المؤتمن” وبالفعل لقد كان .
وبزواج”نفيسة العلم والمعرفة”من اسحاق المؤتمن اجتمع النوران فأنجبا ولدان هما”القاسم وأم كلثوم” رضي الله عنهما .
وبعد حياة حافلة بالعلم والمعرفة تقرر السيدة نفيسة إلى جانب زوجها وآل بيتها الرحيل إلى مصر .
وكأن مصر مختارة منذ القدم والأزل لتكون محطا لرحال النبيين والمرسلين وكذا العترة الطاهرة من آل البيت الأطهار عليهم السلام .
كيف لا ومصر شاهدة على التجلي الأعظم والمناجاه لموسى الكليم في طور سيناء
و كيف أيضا وأن مصر كانت بها رحلة العائلة المقدسة”سيدنا عيسى” عليه السلام؟
ألم تكن مصر خزانة”يوسف الصديق” عليه السلام؟
ألم تستقبل مصر عقيلة بني هاشم السيدة زينب عليها السلام والثلة المباركة من آل بيتها الأطهار بعد فاجعة كربلاء؟
ألم تتشرف مصر برأس الحسين الشهيد بن بنت رسول الله وهذه اشاره أن الرئاسة هنا لا خارج هنا؟
ألم تضم مصر أجسام المئات من صحابة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
ها وقد رأينا كيف انتصرت مصر بجيشها الباسل على أبواق التأسلم والتطرف انتصارا لوسطية الاسلام التي يحمل لوائها أزهرنا الشريف .
في في ٢٦ رمضان من عام ١٩٣ من الهجرة يصل الركب المبارك إلى مصر بأن نزلت “النفيسة” بدار سيدة من المصريين تُدعى “أم هانئ” وكانت دارًا رحيبة، فأخذ يقبل عليها الناس يلتمسون منها العلم، حتى ازدحم وقتها، وكادت تنشغل عما اعتادت عليه من العبادات، فخرجت على الناس قائلة: “إني كنت قد اعتزمت المقام عندكم، غير أني امرأة ضعيفة، وقد تكاثر حولي الناس فشغلوني عن أورادي، وجمْع زاد معادي، وقد زاد حنيني إلى روضة جدي المصطفى”. ففزع الناس لقولها، وأبوا عليها رحيلها، حتى تدخَّل الوالي “السَّرِيّ بن الحكم” وقال لها: “يابنة رسول الله، إني كفيل بإزالة ما تشكين منه”. ووهبها دارًا واسعة، ثم حدَّد موعدًا -يومين أسبوعيًّا- يزورها الناس فيهما طلبًا للعلم والنصيحة؛ لتتفرغ هي للعبادة بقية .
تقص زينب ابنة أخيها يحيى المتوج طرفًا من حياة عمتها فتقول: خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة فما رأيتها نامت الليل ولا أفطرت بنهار إلا في الأعياد فقلت لها أما ترفقين بنفسك فقالت كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبات لا يقطعها إلا الفائزون .
وأضافت زينب: كانت عمتي تأكل في كل ثلاثة أيام أكلة واحدة .
يقولون: “إن البدايات تحكيها النهايات؛وما النهايات سوى ترجمة حقيقية للبدايات” .
” ومن كانت بدايته محرقه كانت نهايته مشرقه” .
وفي رجب سنة ٢٠٨ من الهجرة النبوية إحتضرت “النفيسة” عليها السلام وهي صائمة فألزموها الفطر، فقالت: واعجباه لي منذ ثلاثين سنة أسأل الله أن القاه وأنا صائمة وأفطر الآن هذا لا يكون، ثم قرأت سورة الأنعام فلما وصلت الى قوله تعالى: (لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ) .
صعدت روحها إلى خالقها جل في علاه وكانت قد حفرت قبرها بيدها وصارت تنزل فيه وتصلي .
فروي أنها قرأت فيه ستة آلاف ختمة من القرآن الكريم .
ولما تسرب خبر وفاته اجتمع الناس من القرى والبلدان وأوقدوا الشموع تلك الليلة وسمع البكاء من كل دار بمصر وعظم الأسف والحزن عليها وصُلّي عليها في مشهد حافل لم ير مثله بحيث إمتلأت الفلوات والقبعات، ثم دفنت في قبرها الذي حفرته في بيتها بدرب السباع بالمراغة .
أراد زوجها نقلها بعد موتها الى المدينة ودفنها في البقيع فسأله أهل مصر تركها عندهم للتبرك وبذلوا له مالاً كثيراً فلم يرض فرأى النبي صلى الله عليه وآله فقال له: «يا إسحاق لا تعارض أهل مصر في نفيسة فإن الرحمة تنزل عليهم ببركتها» .
على ربوة جميلةكأنها جنة الدنيا يقع مقامها الأنور؛ بعدما أحيطت به مقابر المسلمين استئناسا من جموع الناس الغفيرة أن توارى أجسادهم الثرى إلى جوار مرقد الطاهرة المطهرة كريمة الدارين .
وذلك في منطقة درب السباع في بداية الطريق المسمى طريق أهل البيت مرورا بشارع الأشراف ..
حيث يصبح المشهد النفيسي هو المحطة الثانية في هذا الطريق بعد مشهد الامام علي زين العابدين عليه السلام .
وطريق أهل البيت بالقاهرة القديمة طريق شهير يبدأ بمقام سيدي”علي زين العابدين”وينتهي بمشهد السيدة “زينب” والإمام’الحسين” ابنا الإمام علي كرم الله وجهه الشريف مرورا بالسيدة “نفيسة” والسيدة”سكينة” بنت الحسين والسيدة “رقية” بنت علي بن أبي طالب و”فاطمة النبوية” بنت الإمام الحسين وسيدي” محمد بن جعفر الصادق” والسيدة “عاتكة” عمة الرسول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام .
كلمة ختام ____
ليت أبناء التصوف اليوم يعيدون قراءة منهج العترة الشريفة من آل البيت والصحب الكرام عليهم السلام .
هذا المنهج الرصين الذي سار على دربه أقطاب التصوف جيلا بعد جيل علما وحالا،قدما وسلوكاً ..
فلم تك خلواتهم بعدا عن الدنيا وانما كانت”دنيا ودين” فكان منهجهم ولا يزال عنوانا للوسطية فكانوا وبحق”رهبانا بالليل؛فرسانا بالنهار” .
فكانت النتيجة: أن جاءت دنياهم في حضن دينهم