رغم ما يُلصق بالإسلام من تشدّد في قضية تنظيم النسل، نظرا للفهم الخاطئ لبعض الأدلة الشرعية لتأكيد رفض الاسلام لأي تدخل في قضية النسل ولو بالتنظيم بحجة أنه تدخل في المشيئة الإلهية، إلا أنه لم يترك الأمر بدون ضوابط أو تقييد.
من هنا تأتي أهمية عرض بعض الفتاوي المستيرة للهيئات العلمية وبعض العلماء بما يفض الاشتباك حول معاني التحديد واتنظيم ، في نفس الوقت تفنيد بعض مزاعم المتشددين الذين يغيبون عقولهم ويضلون العامة ويحدثون البلبلة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!
يعد مجمع الفقه الإسلامي الدولي من أكبر الهيئات العلمية الإسلامية لما يضمه من كبار علماء الأمة وقد أصدر فتوى بشأن تنظيم النسل منذ 35 سنة خلال مؤتمره بالكويت 1988، جاء فيها: “من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل، والحفاظ عليه، والعناية به، باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها، قرر ما يلي :أولا :لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب.
ثانيا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم، ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية .
ثالثا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان، إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعا، بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط ألا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وألا يكون فيها عدوان على حمل قائم “.
التنظيم والتحديد
أكد مجمع البحوث الاسلامية في الأزهر في فتوى له أن تنظيم الأسرة لا يعتبر قتلا للجنين لان التي تستعمل وسائل تنظيم الأسرة لا تكون حاملا في الأصل، كما أن المباعدة بين الولادات وتأخير الحمل جائز شرعا لعدم وجود نصوص تحرمه سواء في القرآن الكريم أو السنة النبوية.
أوضح المجمع أن تنظيم النسل لا يتعارض مع التوكل على الله لأن المسلم يجب أن يأخذ بالأسباب في كل الأعمال ثم يتوكل على الله، ولم يرد نص في القرآن يحرم تنظيم النسل أو تحديده، لكنه جعل الحفاظ على النسل والذرية من المقاصد الكلية للشريعة الاسلامية. كما أن السنة النبوية أباحت العزل كوسيلة لمنع الحمل أو الاقلال منه وهذا أمر يتفق عليه جميع الفقهاء، واباحة تنظيم النسل جاءت قياسا على العزل الذي كان المسلمون يعملون به على عهد النبي.
وأشار المجمع إلى أن تنظيم الأسرة معناه المباعدة بين فترات الحمل بهدف الحفاظ على صحة الأم وجمالها وحتى تتفرغ لتربية الأبناء وتعطي كل طفل حقه في الرضاعة والتربية والتأديب والتعليم. كما أن تنظيم الأسرة ليس فيه شبهة قتل الجنين لأن المرأة تستعمل تلك الوسائل في غير أوقات الحمل، كما ان العلماء أباحوا التنظيم سواء كان بهدف تأخير الحمل أو غير ذلك، بالإضافة إلى أن تنظيم الأسرة لا ينطبق عليه قول الله تعالى:” وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا “.
فتوى مستنيرة
وردا على المغالطين الذين يتهمون العلماء المعاصرين بأنهم “مسيّسين” فإنه بالرجوع الي الفتاوى القديمة ومنها فتوى للشيخ جاد الحق علي جاد الحق، وقت أن كان مفتيا 1979، حيث سئل: هل تنظيم النسل أمر جائز في الشريعة الإسلامية؟ فأجاب: يجب أن يستقر في الأذهان أن مرجع الأحكام الشرعية ومصدرها من حيث الحل والحرمة والجواز والمنع هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وباستقراء آيات القرآن يتضح أنه لم يرد فيه نصٌّ يُحرّم منع الحمل أو الإقلال من النسل، وإنما ورد في سنة الرسول ما يفيد ظاهرُهُ المنعَ.
ونفي الشيخ جاد الحق ما يردده ضيّقو الأفق بأن تنظيم الأسرة معاندة لقدر الله، إن قدر الله غيبٌ غير معروف، لكن تجربة الإنسان ترشده إلى أنَّ فعلَ أمرٍ يترتب عليه حدوثُ أمرٍ آخر ما تحقق فعلًا؛ فذلك أمره متروكٌ إلى الله وحده الذي يُرتب المسببات على أسبابها العادية، ويدل لهذا قول رسول الله: «مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ خَلْقَ شَيْءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ» إلا أنه يحرم التعقيم لأيِّ واحدٍ من الزوجين أو كليهما إذا كان يترتب عليه عدم الصلاحية للإنجاب مستقبلًا؛ سواء كان التعقيم القاطع للإنجاب بدواءٍ أو جراحةٍ، إلا إذا كان الزوجان أو أحدهما مصابًا بمرضٍ موروثٍ أو ينتقلُ بالوراثة مضرًّا بالأمة حيث ينتقل بالعدوى وتصبح ذريتهما مريضةً لا يستفاد بها، بل تكون ثقلًا على المجتمع، سيما بعد أن تقدم العلم وثبت انتقال بعض الأمراض بالوراثة، فمتى تأكد ذلك جاز تعقيم المريض بل ويجب دفعًا للضرر؛ لأن درء المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح في قواعد الشريعة الإسلامية، وكذلك لا يجوز الإجهاض كوسيلةً من وسائل تنظيم بعد مائةٍ وعشرين يومًا.
الوعي لا المنع
ويؤكد د. نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء، جواز تنظيم النسل إذا اتفق الزوجان على ذلك وكان لمصلحة معتبرة شرعا شريطة ألا يكون بقطعه تماما كاستئصال الرحم والتعقيم مثلا، وألا يكون الدافع إلى ذلك الاتفاق هو الخوف من ألا يجدا ما يطعمان به أولادهما وينفقانه عليهم؛ بل يكون الدافع هو تحقيق مصلحة معتبرة شرعاً، كذلك فإن الإنجاب حق مشترك للزوجين، لا يجوز لأحدهما أن يمنع الآخر منه دون عذر معتبر لأن الحقوق والواجبات متبادلة ويجب أن يكون قرار تنظيم النسل بالتفاهم بينهم .
وأشار د. واصل إلي أن الإسلام اعتنى بالأسرة فجعل لها العديد من الحقوق والواجبات، ومن القواعد التي وضعتها الشريعة ليعتني بالأسرة جعل الدين أساس اختيار الزوج والزوجة، ورغم ترغيب الإسلام بتكثير النسل، واعتبره نعمة عظيمة من الله أكرم بها عباده، ولكننا نرفض الدعوات الحالية إلى تحديد النسل، أو منع الحمل لأن هذا يتنافي الفطرة الإنسانية التي أودعها الله في خلقه، ومن أهدافها إضعاف الكيان الإسلامي، وقد أفتى كبار علماء الأمة عبر التاريخ بعدم جواز تحديد النسل مطلقاً، كما حرم منع الحمل خوفاً من الإملاق أو الفقر لأن الله هو الرازق، ولا يجوز إصدار قانونٍ عام بتحديد عدد معين من الأطفال لكل الأسر، لأن لكل اسرة ظروفها الخاصة بها، ولكذا فإن الوعي الديني والاجتماعي هو الحل.
الانجاب والتنمية
أكد د. عبدالله النجار- عضو مجمع البحوث الإسلامية- أن بعض أصحاب الغرض يريدون إطلاق العنان للإنجاب حتى لو كانت ظروف المعيشة لا تسع إلى ذلك، ولا اتصور أن الله يأمر الرجل أن ينجب طفلًا ثم يرمي مسئوليته على المجتمع، ولا أتصور أن يكون هذا مطلبًا شرعيًا صحيحًا أو مستقيمًا، والله أوجب على الناس أن تبحث إذا ما كانت قادرة على المسئولية والإنفاق، ويقول الرسول: “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ“.
وأشار إلى أن من كان غير قادر على الإنفاق في الزواج سيكون غير قادر على توابع الزواج وهو الإنجاب، وليس من المطلوب شرعًا أن تمتلئ الشوارع بنسل لا يجد من يرعاه ولا من يجد من يربيه، لكن أعداء الإسلام والتيارات المتطرفة يريدون نسلًا مثل ذلك لزرع مبادئ التخريب فيه، والتنمية المستدامة لها أبواب ودروب، ومن يحاربون الدين يريدون غلق تلك الدروب، وخلق نسل يدمر الدين، مثل الفتاوي التي ضد التنمية، والأوطان تبنى بالأقوياء وليس الضعفاء غير المتعلمين، قد رأينا انقياد بعض الشباب لما يقوله المتطرفون ممن اغتصبوا سلطان الفتوى ووجهوا لغير ما شُرع له ولا يتفق مع حكم الله ورسوله.
وأنهى د. النجار كلامه قائلا: الإنجاب العشوائي يضر بالتنمية المستدامة، ومع العلم أن مقصد الشرع حول تعاقب الأجيال يؤكده القرآن في قول الله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ” ولنتأمل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعةُ وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”. التنمية المستدامة مطلب شرعي، لكن الخطورة في الجماعات الإرهابية الذين لا يريدون عمارًا ولا أمة ولا بناء ولا تنمية وإنما يريدون انجابا عشوائيا يضر الأمة ويخدم أعداءها .
ضوابط شرعية
وعن حكم اتفاق الزوجين على تنظيم فترات الانجاب، وهل هذا يدخل في تحديد النسل المنهي عنه شرعا، يوضح د. عبدالفتاح خضر- عميد كلية اصول الدين والدعوة بالمنوفية، جامعة الأزهر- أن إنجاب الأولاد مطلب فطري ومقصود شرعي لتعمير الأرض والاستخلاف فيها، إلا أن العبرة في الإسلام ليست بالكثرة العددية فقط وإنما الواجب على الآباء تربية أبنائهم من الناحية الخلقية والاجتماعية والدينية والبدنية وغيرها، والإنفاق عليهم من مأكلٍ وملبسٍ ومسكنٍ وتعليمٍ وعلاجٍ وغير ذلك مما يحتاجون إليه سواء أكان ماديًّا أم معنويًّا، وليس الانجاب وتركهم في الشوارع ليكونوا لصوصا ومخرّبين ومجرمين وهذا ما يرفضه الاسلام بل إنه نوع من إضاعة الأولاد وآثم شرعا من يفعل ذلك.
وأوضح د. خضر أنه لا مانع من تنظيم الاسرة إذا كان في الإنجاب خطورة على صحة الزوجة، أو خاف الزوجان على فساد الزمان على الذرية الكثيرة ولا يستطيعان الانفاق عليها وتربيتها تربية صحيحة، وهذا الجواز على المستوى الفردي، أَما على مستوى الأمة فلا يجوز المنْع المطلق من الإنجاب، لما فيه من الإخلال بنسبة التوازن التي أقام الله الخلق عليها، أو أن يتم تحديد طفل واحد لكل أسرة مثلما تفعل الصين التي تعاني من الخلل بين عدد الذكور والإناث.
تغييب العقل
وأكد الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، أن الدعوة لتنظيم النسل لا تعني التشكيك في أن الله هو صاحب الرزق لأن كثرة الإنجاب تلتهم الأخضر واليابس، فالله كفيل برزق أي كائن حي وقادر على ذلك، لكن الأمر يشبه الأب الذي يحرم المصروف عن ابنه من باب العقاب، هذا لا يعني أن هذا الأب فقير، وهناك فارق بين العلم والمزايدة، أن الرزق من الممكن أن يكون موجودًا لكن الشخص يكون فقيرًا ولا يستطيع الاستفادة منه، مثل المليونير المصاب بالقرحة الذي لا يستطيع تناول الطعام مثل الشخص السليم، والوقت ذاته أن هناك فارق بين العلم والمزايدة.
وأشار الشيخ الجندي إلى أن المزايدة هي أن تضع الأمر في غير نصابه، ويحاول الإنسان أن يظهر أنه أكثر علما من غيره ولو بالباطل والجدل ودون وجه حق، الطفل الذى ولد ميتا لم يأخذ أي من أنواع الرزق في الحياة الدنيا، وهذا لا يعني أن الله عز وجل قصّر في حقه ولكن هذا ما قدره له ، لا تعارض بين تنظيم النسل والتوكل على الله في الرزق لأن منع الحمل مؤقتًا بالعزل أو بأية وسيلة حديثة لا يعدو أن يكون أخذًا بالأسباب مع التوكل على الله شأن المسلم في كل أعماله؛ أرأيت إلى الرسول حين قال لصاحبه: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» وإني أتساءل: هل قول الله تعالى: “وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا” يسمح بالكف عن طلب الرزق اعتمادًا على أنه مكفول من الله؟!
وأنهى الشيخ الجندي كلامه مؤكدا أن هناك من يزايد على ما يقوله في أمور الدين بغير علم وفهم للواقع لأن هجوم البعض عليه عندما قال «مش كل عيل بيجي بيرزق»، تعرض لهجوم من قبل من لا يفهمون الدين أو يجيدون قراءة الواقع الحالي للعباد، أوجّه حديثي لمشايخ الغبرة، فالأولاد طوق فى رقبة المرء كما أخبرنا رسول الله، كل شخص منا سيتحاسب عن أولاده وكيفية تربيتهم، لأن هؤلاء رعية مسئول عنهم، فالانفجار السكاني يوقف التنمية والحياة عامة، فالله خلق الكون على قانون السببية، كل مخلوق لا يتأتى برزقه فى ناس بتموت من الجوع فى أفريقيا، لازم نعمل حساب كل طفل سيكون فى رقبتك، ولازم تقدر قدرتك على توفير كل احتياجاته .