مما لا شك فيه أنَّ العلم بمختلف صنوفه وأنواعه أحد أهم الركائز الأساسية التي قامت على أساسها الحضارة الإسلامية ردحا طويلا من الزمان، سواء في ذلك العلوم النظرية، أو التطبيقية، إذ النصوص الشرعية الداعية لطلب العلم لم تفرق بينهما، لاسيما إذا تعلق كل منهما بخدمة الإنسان، وتحقيق مصالحه، سواء الدنيوية أو الأخروية، فكليهما مقصود له على درجة كبيرة من الأهمية ولا غناء بأحدهما عن الآخر.
والإسلام يحفل دائما بكل أنواع العلم التي تعمل على تطوير منظومة الكون وإعماره، بما يحقق سعادة الإنسان والارتقاء به، ولعل ذلك هو سر قول الله عز وجل:” يا معشر الجن والإنس إن استعطتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان” الرحمن.
إن الإسلام يرحب عمومًا بالعلم والبحث العلمي، ويرى من فروض الكفاية على الأمة المسلمة أن تتفوق في كل مجال من مجالات العلم التي تحتاج إليها الأمة في دينها، أو دنياها، بحيث تتكامل فيما بينها، وتكتفي اكتفاء ذاتيًا في كل فرع من فروع العلم وتطبيقاته، وفي كل تخصص من التخصصات، حتى لا تكون الأمة عالة على غيرها.
ولقد بدأت الحياة العلمية لدى المسلمين من خلال الوحي الأمين الذي تنزل بالقرآن الكريم على قلب النبي عليه الصلاة والسلام، والذي اتخذ كتَّابا له يكتبون ما نزل في الجريد، والأحجار، واللخاف، ونحو ذلك، وكان النهي إذ ذاك عن كتابة أي شيء غير القرآن، خوفا من اختلاطه به، فعن عن أبي سعِيدٍ قال: قال رسول اللّهِ e:” لا تَكتُبُوا عني شَيئاً سوى القُرْآنَ من كتَبَ شَيئاً سِوى القُرْآنِ فَليَمْحُهُ”
وعن أبي جُحَيفَةَ رضي الله عنه قال: قلت لِعلِيٍّ رضي الله عنه هل عِندَكُمْ شَيءٌ من الوَحْيِ إلا ما في كِتابِ اللّهِ؟ قال: والَّذِي فلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النّسَمَةَ ما أَعلَمُهُ إلا فَهمًا يُعطِيهِ الله رجُلًا في القُرْآنِ، وما في هذه الصّحِيفَةِ، قلت: وما في الصّحِيفَةِ؟ قال:” العَقْلُ وفَكَاكُ الأَسِيرِ ..إلخ”
ثم بعد ذلك دٌوِّنت العلوم الإسلامية بمختلف صنوفها وأنواعها في عصر النهضة العلمية سواء فيما يتعلق بالسنة، أو الفقه، أو العقيدة، أو الفلسفة، أو الفلك، أو اللغة، أو غير ذلك من سائر صنوف العلم والمعرفة، سواء أكانت من علوم الوسائل، أم من علوم الغايات.
ورغم التدوين الذي حدث إلا إن العلوم الشرعية وغيرها كانت مدونة في نسخ ربما دفع إلى كل قطر أو بلد بنسخة، وربما وجد في البلد الواحد كتاب كالبخاري، وكان هذا إذ ذاك فتحا مبينا ونصراً مؤزَّراً، وكان من ثمار ذلك عدم انتشار العلوم الشرعية بشكل عامٍ وكافٍ، وإنما كانت قاصرةً على طلبة العلم، ومن لديهم القدرة على شراء بعض هذه المخطوطات أو الكتب.
مع ظهور الطباعة في العالم الإسلامي وما صاحبها بعد ذلك من طباعة الكتب والمخطوطات كان هذا الأمر في غاية الإبهار، وبدأت عملية انتشار العلوم الشرعية بمختلف صنوفها، وبدأت البيوت يوجد فيها المكتبات التي تتناول العديد من الكتب، وأصبحت القراءة أمرا غاية في الأهمية، وأصبحت العقول أكثر تنويرا من ذي قبل.
قبل عقود قليلة حدثت طفرات كبيرة، ونقلات نوعية في مجال التكنولوجية الحديثة، وأثمر ذلك عن توظيف البعض لها توظيفا جيدا من أجل نشر العلم والمعرفة سواء على مستوى الأفراد أو الدول، فبدأت طباعة الكتب تتزايد، وتظهر معها دور النشر المختلفة في العالم العربي والإسلامي، وبدأت تظهر ملامح الكتاب الإلكتروني، من خلال الإسطوانات المدمجة التي قامت شركات عملاقة على نشرها، والموسوعات العلمية، وبدأت عمليات النشر تأخذ منحنى آخر، فبدلا من أن يكون في القطر بأكمله نسخة واحدة من كتاب البخاري مثلا، أصبحت كتب السنة كلها، والفقه، والتاريخ، واللغة، والأصول، وغير ذلك كتير موجود على إسطوانة مدمجة، أو هارد ديسك، أو من خلال الشبكة العالمية للإنترنت من خلال رابط، وظهرت المكتبات الإلكترونية التي ملأت البيوت، وفضلا عن ذلك أسهمت التكنولوجيا الحديثة في حفظ فتاوى ودروس العلماء – صوتا وصورة – التي تلقي في المحافل المختلفة وغيرها، كل هذا أثمر عن طفرة علمية هائلة في العلوم الشرعية، أسهمت في تطوير الفكر الإسلامي، والإنساني، وساهم في تنوير العقل المسلم، وبدد ظلامه وجهله، وجعل العلماء قادرين على ملاحقة التطور، ومواكبته، ببحوثهم العلمية في شتى النوازل المختلفة، وهذا يدعونا الآن بعد كل ما سبق أن ننظر إلى هذه الأشياء بعين الاعتبار، ونتذكر فضل الله علينا، وأن نعض على هذه المنح والمعارف بالنواجذ، وأن نستخدمها فيما يخدم الإنسانية والبشرية جمعاء، وأن نوقن أنَّ هذا من النعيم الذين سيسألنا الله عز وجل عنه:” ثم لتسألنَّ يومئذٍ عن النعيم” وأن يستتبع ذلك كله العمل بما نعلم، والإخلاص فيه حتى يستمر عطاء السماء ونورها الممتد للأرض يؤتي أكله كل حين بإذن ربه.
حفظ الله مصر** حفظ الله الجيش