د. عمرو الكمار: الروابط الأسرية أسمى العلاقات الإنسانية
ريهام عبدالرحمن: “التزاور”.. السبيل القويم نحو المجتمع الآمن
تحقيق : سمر هشام
تعد الروابط الأسرية من أسمى العلاقات الإنسانية التي وصفها الخالق سبحانه وتعالى بأنها من آياته، فقال تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (21) سورة الروم.
لذلك فهي إذا ما توثقت وتعمقت، ونمت وتعهدها الجميع بالتواصل والتزاور والتعاون والتعاضد فيما بين أفراد الأسرة، أنبتت المحبة والود والسلام، واختفت كل صور ومظاهر الكره والحقد والتباغض.
يصف د. عمرو الكمار، دكتوراه في الحديث، العلاقات الأسرية بأنها أسمى وأقدس العلاقات على وجه الأرض، فتبدأ تلك العلاقة بالزواج بين رجل وامرأة، ثم تمتد بإضافة أفراد هم الأولاد، ثم تتسع لتشمل الأقارب والأصهار من الطرفين، فقد خلق الله تعالى البشر وجعلهم قبائل وشعوبًا، ليتعارفوا ويتآلفوا، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}؛ وذلك لتحقيق التعايش والتواصل، والتآزر والتكامل، فصلة الأرحام من أكبر عوامل تحقيق التآلف والترابط ونشر قيم التراحم بين الناس كافة، إنها كالشجرة التي تمتد أوراقها ليستظل بها الجميع، وكلما ازدادت أوراقها وتشابكت أغصانها كلما كانت الحضن الدافئ والحصن الأمين لكل من يأوي إليها.
منزلة عظيمة
يضيف: إن للرحم شأنًا عظيمًا، ومنزلة عند الله عظيمة، ويكفيها شرفًا ومكانة أن الله (عز وجل) قدْ شقَّ لها اسمًا مِن أسمائِهِ , ووعدَهَا بأن يصِلَ مَنْ وصلَهَا، ويقطَعَ من قطعها، قَالَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنْ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَذَاكِ لَكِ)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، وقد جعل النبي صلتها علامة من علامات الإيمان، فقال: (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) ، إن الإنسان مدني بطبعه، فهو يأنس بالناس ولا يستطيع الاستغناء عنهم، فقد يرغب الطفل عن الآخرين بنفسه دون مؤثر خارجي، وقد يدفعه الولدين لهذا السلوك، فيألف هذه القطيعة، ويحب الوحدة ويكره الاختلاط بالناس، وتزداد الخطورة عند قطع الأقارب وذي الرحم، فيأثم الوالدين لهذا السلوك، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ )(سنن الترمذي). فلا ينبغي أن يحمل الخوف لدى الوالدين من عواقب الاختلاط مع الأقارب التي تأتي ببعض المشاكل، على قطع الطفل عن أهله ورحمه، لما في ذلك من عواقب وخيمة تتمثل في جانب منها في الانطوائية التي يتضرر منها الطفل أيما ضرر، فيعاني من ضعف في علاقاته الاجتماعية مع الأخرين، فقد يستحوذ عليه الخجل الشديد، فتضطرب تصرفاته، ويخاف من التجمعات، واللقاءات، وقد يخجل من شكله ومظهره، ويعظم عنه الشعور بالذنب، وغير ذلك من العواقب ، وقد عدد أبو حامد الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) فوائد ودواعي التواصل الاجتماعي، فذكر منها: “التعليم والتعلم، والنفع والانتفاع، والتأديب والتأدب، والاستئناس والإيناس، ونيل الثواب وإنالته في القيام بالحقوق، واعتياد التواضع، واستفادة التجارب من مشاهدة الأحوال، والاعتبار بها”. وكان الفيلسوف الكبير ابن سينا يفضل أن يذهب الطفل إلى الكتاتيب ولا يحب أن يكون له مؤدب (المدرس الخاص)، فالجلوس مع الصبيان الآخرين يدفع عن الصبي السأم ويدفعه للتنافس والاستفادة من زملائه، كما أنه يعده للتعايش مع أفراد المجتمع والاختلاط الحسن بهم.
ويشير د. الكمار إن صلة الـرحم تحمل خيرًا عميمًا لا ينبغي أن يغلق عن المسلم ولا عن أولاده، بل يجب العمل على نشر هذا الخير واستمراره، فهي تتحقق بالسؤال والسلام، وبالزيارات، وبالعمل على إيصال الخير لهم، ودفع الشر عنهم، بحسب الطاقة، وتفقد غائبهم، وعيادة مريضهم، ورحمة صغيرهم، وتوقير كبيرهم، والإهداء إليهم، والتصدُُّق على فقيرهم، وإجابة دعوتهم، وإكرام ضيافتهم، مما يؤدي إلى نشر المودة والمحبّة وقيم التكاتف والترابط بين جميع أفراد المجتمع عامة، والأسرة على وجه الخصوص، فصلة الرحم تعمل على تقوّية المشاعر الإنسانية، فيصير المجتمع كأنه لُحْمَةٌ واحدةٌ ونسيج واحد مترابط، تجعل البعيد قريبًا، والمسافر مقيمًا، والفقير غنيًّا، والمريض صحيحًا، ما أجملها من صورة لو تحققت، وما أزكاه من جسد لو تماسك.
المجتمع الآمن
تؤكد ريهام عبد الرحمن، خبيرة الإرشاد الأسرى والتطوير الذاتي، أن الترابط الأسري هو السبيل القويم نحو المجتمع الآمن الذي تسوده روح المحبة والوفاق؛ ونظرا لأهمية الأسرة في المجتمع من حيث كونها المصدر الوحيد للأمان والراحة في ظل صراعات هذه الدنيا الفانية؛ فقد أشارت دار الإفتاء المصرية في بيان لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن أهمية الترابط الأسرى والتجمعات العائلية وحذرت من مقاطعتها نظرا لأنها تعد من أساليب التربية الإيجابية للأبناء والتي يتعلمون من خلالها أهمية التواصل والتقارب في بناء الشخصيات الواثقة ،ويقول الله عز وجل في كتابه الكريم (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)) آل عمران : 159 ، فالترابط الأسرى من الجوانب التي ينبغي علينا مراعاتها عند تربية الأبناء؛ فالاندماج مع العائلة يعمل على تحسين مهارات التواصل لدى أبنائنا وتهذيب سلوكهم وأخلاقهم ، فنجابة الأبناء لا تعني التفوق الدراسي فقط، ولكنها تعني رفعة الأخلاق وجميل السلوك، فالعلم دون الأخلاق وبال على صاحبه.
وترد ريهام عبد الرحمن على التساؤلات التي تثور عن هل للترابط الأسرى والتجمعات العائلية أثر إيجابي على أبنائنا؟ قائلة : نعم فالأخلاق تأتي من التربية السوية، والتي تقوم على الحوار والمشاركة وذلك من خلال المودة والرحمة بين الزوجين مصداقا لقوله تعالى ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزوجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) الروم: 21، ويجب المحافظة على الاجتماعات العائلية، والتي باتت شبه منعدمة في ظل مشاغل ومسئوليات الحياة المتتابعة، وكذلك انشغال الأسرة بمواقع التواصل الاجتماعي، والتي تسببت في وجود فجوة بين الآباء والأبناء، وبين الأبناء وعالم الواقع الخارجي فلابد من وضع موعد متفق عليه تتجمع فيه الأسرة وليكن يوما من كل أسبوع ،والتواصل مع الأقارب والجيران فالتواصل والاجتماع الأسرى ينبغي ألا يكون على نطاق الأسرة فقط، ولكن لابد وأن يمتد للجيران والأقارب والمجتمع ككل؛ فذلك يشجع الأبناء على التواصل وينمي لديهم مهارة الانتماء والإبداع ، وللأسف نجد الكثير من الأسر تتحجج، بأنهم ليس لديهم الوقت الكافي لزيارة الأقارب أو حضور الاجتماعات العائلية، وهم لا يدركون الأثر النفسي الإيجابي لمثل هذا التواصل الفعال الذي يقوي مناعة الإنسان ضد أمراض القسوة والأنانية والجمود.
وتشدد ريهام، على الآباء الابتعاد عن الحوار القاتل والذي ينتهي قبل أن يبدأ كأن نحاور أبناءنا بأسلوب الاستجواب المنفر؛ والذي يشعرهم بأنهم مذنبون في ساحة المحاكمة ، فالترابط الأسرى لا يأتي من فراغ ولكن يأتي من خلال أسرة تهتم باختيار اللحظة المناسبة في بدء الحوار، ومن هنا يتعلم الأبناء كيف يتحاورون مع الآخرين ويحترمون آراءهم وإن كانت مخالفة لهم والاهتمام بتنظيم الأنشطة، فمشاركة الآباء للأبناء بعض الأنشطة كالتسوق، التنزه، الرياضة، يساعد في توطيد العلاقة وخلق جو من الراحة النفسية بينهم ، الأهل نموذج محاكاة لأبنائهم فمن الضروري تنمية روح الاحترام في نفوس الأبناء، وذلك من خلال احترام أحلامهم وتطلعاتهم بالحياة فذلك بمثابة قدوة لهم في احترام الآخر وتقديره؛ وكذلك تقديم رسالة عنوانها الحب والاهتمام حتى وإن لم نتفق في الرأي ،عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال ” ما حجبني النبي صل الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي” صحيح البخاري، فبالرغم من انشغال الحبيب المصطفى بأمور المسلمين، وتيسير شئون دولته إلا أن كل هذا لم يقف عائقا أمامه في أن يتواصل مع الآخر ويستقبل شكواه ويخفف عنه، دعوة منه للتسامح والترابط الذي يدعم تماسك المجتمع وتقدمه نحو سبيل الإرادة والصمود.