الكنائس تعيش عصرها الذهبى.. و”التقنين” ينهى كل العقبات
تجديد الخطاب الدينى.. واجب العصر
اتفاق مسيحى فى قانون الأحوال الشخصية.. ما عدا “الطلاق”
الإرهابية مازالت على علاقة وثيقة بمراكز البحوث الغربية.. ونجهز لمؤتمر عالمى للرد عليهم
“حياة كريمة”.. أكبر مبادرة اجتماعية في العالم
مصطفى ياسين
وصف د. أندريه زكى- رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر، رئيس الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية- العلاقة بين مسلمى ومسيحيى مصر بأنها نموذج لا يمكن تكراره، فى التعايش والمواطنة، فهم نسيج وسبيكة واحدة غير قابلة للكسر أو التفرق، فى مواجهة التحديات التى تزيدها صلابة ولمعانا.
أكد أن الكنائس المصرية تعيش عصرها الذهبى، خاصة بعد قانون “التقنين” الذى سيُنهى كل العقبات ويفتح الباب على مِصراعيه للاستقرار والقضاء نهائيا على أى أسباب للفتنة.
أشار إلى وجود “اتفاق مسيحى” فيما يتعلّق بقانون الأحوال الشخصية الجديد، ما عدا مسألة “الطلاق”.
وحذَّر من استمرار الجماعة الإرهابية ككيان يسعى لتشويه صورة وسُمْعَة مصر- داخليا وخارجيا- لأنها مازالت على علاقة وثيقة بمراكز البحوث الغربية، ونحن بدورنا نُجهِّز لعقد مؤتمر عالمى فى أمريكا للرَدِّ عليهم وتفنيد أباطيلهم وافتراءاتهم.
وفيما يلى نصّ الحوار الذى أُجرى معه، على هامش مؤتمر “آليّات التنوّع والتضامن المجتمعى”، الذى عقدته الهيئة الإنجيلية مؤخّرا، بالعين السُخنة، وعقب إعادة انتخابه- بالإجماع- لفترة رئاسية ثانية للطائفة.
*من حُسن الطالع، تزامن احتفالات عيدى الفطر والقيامة، فما تعليقكم؟
** أُهنّئ الجميعَ -مسلمين ومسيحيين- بشهرِ رمضانِ وعيد الفطر، وأيضًا قربِ حلولِ عيدِ القيامةِ المجيدِ، فتزامُن الأعيادُ يُضفي جوًّا من السعادةِ على جميع المصريين، وأُعرب عن تقديرى لدور الدولةِ المصريةِ، وعلى رأسِها الرئيس عبدالفتاح السيسي، ومجهوداتِه في دعمِ قضيَّةِ المواطنةِ، وتعزيزِ التضامنِ الاجتماعيِّ من خلالِ إجراءاتٍ وقراراتٍ عمليةٍ أبرزتِ التوجُّهَ الجادَّ من جانبِ الدولةِ في المضيِّ نحوَ تحقيقِ المواطنةِ وتعزيزِها ودعمِها.
وشهر رمضان وعيد الفطر له مذاقه الخاص عند المصريين جميعا- مسلمين ومسيحيين- فنحن شعب واحد يعيش في وطن واحد، وهناك فرص كثيرة للتجمّع والإفطار والسحور مع الأحبّاء، فأنا أدَعى إلى مناسبات إفطار وسحور، والهيئة الإنجيلية والطائفة تنظّم حفلات إفطار جماعية لشُركائنا في الوطن، فيكون الطعام نفسه له طعم ومذاق خاص، كما أن رمضان يتمتّع بالعديد من الألحان والأغانى التي أحبُّ سماعها سواء قبل أو أثناء رمضان فى المناسبات الجميلة، وهو شهر نتقابل مع إخواتنا، وعدد كبير من الكنائس يهتم بهذا الشهر وتنظّم حفلات إفطار جماعى، الأمر الذى يعمل على مدّ أواصر المحبّة، ويدعم الوحدة الوطنية ويؤكّد أنها ليست شعارات فقط ولكنها ممارسة أو معايشة، وفترة العيد تكون جميلة لأُعيّد على كل أصدقائى سواء بالتليفون أو بالرسائل أو إرسال برقيات تهنئة.
وفى العيد أهنّئ الرئيس السيسى، وأزور فضيلة الإمام الأكبر ووفضيلة وزير الأوقاف والمفتي ومحافظ القاهرة، ويكون اللقاء في منتهى الود والمحبة ونتناقش فى قضايا وأمور تخصّ البلد، فمصر نموذج لا يمكن تكراره.
علاقة قوية
*أنت تعتبر رجل دولة وسياسة، بفضل علاقاتك مع كبار المسئولين، فكيف ترى علاقة الكنيسة والدولة؟
** الكنيسة هي إحدي مؤسسات الدولة، والدولة المصرية تتّجه بقوّة نحو المواطنة وتدعمها على أرض الواقع، وزيارة الرئيس للكاتدرائية، والحديث عن وجود الكنيسة والمسجد في المجتمعات العمرانية الجديدة، وقانون بناء الكنائس وهيئة الأوقاف الإنجيلية والكاثوليكية، وتطبيق القانون على الجميع، كل هذه الأمور تؤدّي إلى المواطنة فعلا وليس مجرد قول أو شعار، ومن ثَمَّ فالعلاقة ممتازة، ونحن نشعر براحة وسلام مع الدولة، وأنها داعمة لكل المصريين، وأن هناك إرادة سياسية في العيش المشتَرَك وطريق المواطنة، وبالتالى فالمناخ الشعبي يتغيّر للأفضل وهو ما نراه على أرض الواقع. وأيضا القيادات الدينية- الإسلامية والمسيحية- يتعايشان معا، فكل هذه الأمور تقول إن العلاقة على ما يرام بين الدولة والكنيسة.
الكنيسة والأزهر
*وماذا عن علاقة الكنيسة بالأزهر؟
** علاقة طيّبة للغاية وتجمعنا بالإمام الأكبر د. أحمد الطيب- شيخ الأزهر- وفضيلة د. شوقي علام- مفتي الجمهورية- وفضيلة د. مختار جمعة- وزير الأوقاف- علاقات عميقة واحترام وحوارات متبادلة، وبيت العائلة يُجهّز لعدد من اللقاءات وفيه أدوار موجودة لكل تلك القامات الدينية والتي تجمع ولا تُفرّق.
فالمؤسّسات الدينيّة لها اهتماماتها بالشأن الداخلي الخاص بها وعليها أعباء ومسئوليّات، والعلاقات طيّبة ومتّزنة، والمرحلة المُقبلة سيكون لها مزيد من الأدوار والمشاركة المجتمعيّة معا.
الأحوال الشخصية
*نال قانون الأحوال الشخصيّة الجديد، الكثير من الجدل والنقاش فيما بين الطوائف المسيحية المختلفة، فما هى آخر التطوّرات؟
** الطائفة الإنجيلية طالبت بالمساواة بين الرجل والمرأة فى الميراث، ودار حوار حول مادتى المواريث والتبنّى، ولم يكن هناك توافق عليها وقدّمت الكنائس مقترحاتها. ومع ذلك فالقانون ستتم مناقشته فى البرلمان ومن حق البرلمان أن يُعدّل فيه ما يشاء، وفيما يتعلّق بقضية التبنّى كانت على قائمة طلبات الطائفة من الدولة والبرلمان وسيتم تكليف المندوبين بفتح وطرح القضية من جديد، خاصة وأن الإرادة السياسية حاضرة لدعم خروج هذه القوانين.
لكن القانون حظى بالكثير من الاختلافات بين الكنائس فى أمر الطلاق وبطلان الزواج، فالكاثوليك لا تسمح بالطلاق، والإنجيلية لا تسمح سوى فى حالتى الزنا أو تغيير المِلَّة، والكنيسة الأرثوذكسية أصبح لديها مواد أوسع فى الطلاق، كالهجر لأكثر من 4 سنوات.
زيارة متعددة الأغراض
*لقد عُدْتَّ للتوِّ من أمريكا، فما هى النتائج التى حصدتَها؟
** زيارتى الأخيرة كانت متعدّدة الأغراض فهى: كنَسِيَّة، اجتماعيّة، اقتصاديّة، سياسيّة أيضا، وأنا مهتم جدا بدعوة عدد من رجال الأعمال الأمريكان للاستثمار في مصر، وقريبا نرى حصيلة هذه الجهود تعود بالنفع العام على المجتمع المصري والنهوض الاقتصادي.
ويجب أن نعترف بأن مصر تتغيّر للأفضل وما تم من بُنيّة تحتيّة وفي مجال الزراعة والاستثمار مذهل، ولكن عوامل خارجة عن إرادة مصر مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية أثّرت بشكل كبير على العالم كله، وعلينا أن نعترف بوجود تحدّيّات كبيرة وعندما نتجاوزها سنكون في وضعية أفضل بكثير، وأنا متفائل جدا خصوصا حينما أسمع أولادي يقولون أنهم يحبّون مصر ولا يريدون الهجرة. فهذا يبعث على الطُمأنينة والراحة.
لكن للأسف الشديد رغم كل جهودنا فى توضيح الصورة الصحيحة عن مصر فى عصرها الذهبى، والإنجازات التى تتحقّق على أرضها، إلا أن الجماعة الإرهابية مازالت على علاقة وثيقة بمراكز البحوث فى أمريكا وبريطانيا، وتقوم بتشويه كل هذا وتُصدِّر الصورة السيّئة، ولذا فنحن نُجِهّز لترتيب زيارة وفد مصرى يضم برلمانيين ورجال دين ومفكّرين وإعلاميين، لعقد مؤتمر روحى- أكتوبر المقبل- وسنلتقى بوفد من الخارجية الأمريكية ولجان الحرّيّات الدينية، والمجتمع المدنى وقادة الكنائس فى نيويورك، وأعضاء الكونجرس المهتمّين بمنطقة الشرق الأوسط.
الكنائس الإفريقية
*هل أنت راضٍ عن علاقة الكنائس المصرية بقريناتها الإفريقية؟
** الحقيقة، لم تُعط الكنيسة المصرية اهتماما واضحا للكنائس فى أفريقيا، وهى من الملفّات التى سنعطيها اهتماما أكبر الفترة المُقبلة، وقد بدأنا إعطاء تعليمات واضحة لمساعدة السودانيين فى إقامة طقوسهم الكنسية. وفيما يتعلّق بالأزمة الأثيوبية فرئيس وزرائها “أبىّ أحمد” تابع لإحدى المذاهب الإنجيلية، وكان بإمكاننا استثمار وتوظيف هذا.
التحالف الوطنى
*باعتبارك رئيسا للهيئة القبطية الإنجيلية، ماذا عن انضمامكم للتحالف الوطنى للعمل الأهلى؟
** بداية أوضح أن المجتمع المدني يمثِّل طريقا ثالثا للتنمية في مصر مع الحكومة والقطاع الخاص، والدولة المصرية في الثلاث سنوات الأخيرة لديها توجّه كبير لدعم المجتمع المدني ظهر في تغيير القانون الخاص بهذا الأمر، وأيضا إطلاق الرئيس على 2018 بأنه عام المجتمع المدني، ولعلّ المحاور الرئاسية تعلن عن ذلك بوضوح شديد، مثل: إبصار، حياة كريمة، تكافل وكرامة، وأيضا نقطة التحوّل الجذرية هي في “التحالف الوطني للعمل الأهلى” لأنه يضم ثلاث قوى تلتقي معا لخدمة الناس وهي: مؤسسات المجتمع المدني، مؤسسات الدولة، البنية التحتية الموجودة في المجتمعات المحلية. وهذه القوى الثلاث تتحالف في رؤية استراتيجية لدعم احتياجات الناس والفئات الأولي بالرعاية، وهي نقطة تحوّل، وتعتبر “حياة كريمة” أكبر مبادرة اجتماعية في العالم ككل، وهي ربما تتجاوز التريليون جنيه في مراحلها الثلاثة، سواء في التأثير أو الحجم، وبحكم مشاركتنا كهيئة في هذه المبادرة نرى عدم التكرار وايضا الالتزام الكبير في خدمة الناس. ومن ثم فإنني أرى أن دور المجتمع المدني في الدول يتعاظم مع الوقت أكثر والدولة تفسح له المجال.
والتحالف الوطنى منع تكرار وازدواجية الأنشطة والمستحقّين، ويقوم بالتنسيق فيما بين الجمعيات من خلال بيانات ودراسات، لمزيد من خدمة المجتمع، وصولا لـ”جودة حياة كريمة”.
ويكفى أن نشهد هذه المبادرات الرئاسية التى أعقبت برامج الإصلاح الاقتصادى وأهميتها فى المجتمع مثل “حياة كريمة” و”كتف فى كتف” و”أبصر” وغيرها، كل هذا يحتاج لأذرع ومتطوّعين لتحقيقه على أرض الواقع. ولذا يوجد لدينا خمسون مكتبا فرعيا للمشروعات الصغيرة، تابع للهيئة الإنجيلية، وخدماتنا تصل إلى 4 مليون مواطن مستحق سنويا.
وقد قامت الهيئة بعدد من التدخّلات لدعم الفئات الأولى بالرعاية، فمثلا بمحافظة المنيا شملت توزيع 3500 كرتونة مواد غذائية للمواطنين الأكثر احتياجا، بالإضافة الى تقديم موائد إفطار لإطعام عدد 2200 من المزارعين المشاركين في تنفيذ مبادرة “ازرع” والقيادات التنفيذية بالمحافظة والكوادر المحلية الداعمة المبادرة.
بناء الكنائس
*وماذا عن قانون بناء الكنائس؟
** قانون بناء الكنائس سهَّل بشكل كبير ما عانينا منه الفترات الماضية، حيث كنّا تحت رحمة الأشخاص وليس رحمة القانون، فهذا القانون أحدث نُقلة، فنحن لدينا ككنائس إنجيلية ما يقرب من 1500 كنيسة، المُقنَّن رسميا قبل صدور القانون 500 فقط، وتقدّمنا بعدد 970 كنيسة، بالإضافة إلى 100بيت مؤتمرات وخلوة، ما تمّ تقنيه خلال خمس سنوات مضت تقريبا حوالي 428 وربما يصل الي 450، أى ما تم تقنينه في 200 سنة، تجاوزنا عدده في الخمس سنوات الأخيرة وأتوقع الـ500 أو 600 الباقية يتم تقنينها خلال خمس سنوات مقبلة، وهذا سيكون لأول مرّة في تاريخ مصر أن الكنائس التي على أرض مصر مُقنَّنة رسميا، وهذه نقطة تحوّل كبيرة جدا في ملف بناء الكنائس.
وهذا الانفتاح ليس قاصرا على مصر فقط وإنما هناك انفتاح كبير أيضا فى السعودية الفترة الأخيرة وتغييرات ثقافية واجتماعية وفنّيّة، ولا أستبعد بناء بعض الكنائس.
مجتمع الكنيسة
*هل يقتصر دور الكنيسة على العبادة فقط؟
** الكنيسة مسئولة ومدعوّة لخدمة المجتمع، فالكنيسة التي لا تخدم المجتمع الذي تعيش فيه لا تفهم دورها الأساسي، فخدمتها للمجتمع بمحبّة وانكسار وبناء الجسور وبناء السلام وتقديم يد العون دون الالتفات للهُويّة بقدر اهتمامها بآلام الناس.
عصر التجديد
*طبيعة العصر هى التغير والتجديد فى كل شئون الحياة، ومنها الخطاب الدينى، فكيف يتم هذا؟
** بكل تأكيد نحن أمام عالم يتغيّر بشكل دراماتيكي وليس بشكل تقليدي أو بشكل تدريجي وهناك عاملَين أحدثا تغييرا جذريا في العالم كله، جائحة كورونا التى فرضت علاقات اجتماعية جديدة، كما أنها فرضت نموذجا للعمل من المنزل.
أيضا الحرب الروسية- الأوكرانية التى فرضت تحديات اقتصادية مذهلة، والغريب أن الحرب في أوربا لكن دلالاتها في العالم كله، فالعولمة الآن ليست هي عولمة الحروب والعلاقات الإنسانية والتأثيرات بأشكالها المتعددة، وهذا يفرض على القائمين بالخطاب الديني على ضرورة وأهمية قراءة التغيرات الجديدة وكيفية التعامل معها.
فالعلاقات الإنسانية تتغير، والاحتكاك بين الناس يتغير، وبالتالى التواصل بين البشر يتغيّر والمفاهيم تتغير والقيم أيضا ستتغير، فالسؤال هنا: هل ما حدث ويحدث في العالم يتطلب خطابا دينيا جديدا؟ بالتأكيد نعم . ولابد أن يكون خطابا مُلِمًا بتغيّرات اللحظة، اللاهوتيون قديما كانوا يقولون (بيد نمسك الكتاب المقدس وبيد أخرى نمسك الصحف) وأنا أضيف: الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي.
فقراءة متغيّرات اللحظة أمر مهم، والربط بين النص واللحظة الراهنة في منتهي الأهمية في الوقت الحالي أما أن تقعد تتفلْسِف وتشرح النص وتفهّمه للمتلقّي وتقف عنده ليس كافيا، لكن ينبغي أن تعود بالنص إلى اللحظة الراهنة وتغّير فيها فهذا هو الأهم. وعندما يحدث ذلك فإن الخطاب الديني يصير مؤثّرا ومغيّرا للحظة الراهنة.
كنيسة العاصمة
*لقد حصلتم على مساحة شاسعة فى العاصمة الإدارية الجديدة، مخصّصة للطائفة الإنجيلية، فماذا فعلتم فيها؟
** الطائفة انتهت من رسومات الكنيسة التى حصلت عليها فى العاصمة الإدارية الجديدة وسوف تبدأ حملة التبرعات بعد اعتماد الجهات المسئولة للرسومات، وحملة التبرعات سيقوم بها بعض رجال الأعمال الأقباط والمسيحيين بالكنائس المختلفة وبعض الأصدقاء فى الخارج، لأنها تحتاج من 150- 200 مليون.
وفى المرحلة الثانية ستكون هناك دراسة حول طلب بناء كنائس جديدة من كل المذاهب الإنجيلية، بعد بناء الكنيسة الأولى والتى ستكون تابعة لرئاسة الطائفة واجتماعاتها واحتفالاتها.
التنوّع وآلياته
*عُقد مؤتمركم الأخير بعنوان “التنوّع وآليّات التضامن المجتمعي”، فما المقصود منه؟
** ما نشهَدُه من متغيّراتٍ وظروفٍ عالميَّةٍ أثّرت تأثيرًا شديدًا على الأوضاعِ الاقتصاديةِ في دولٍ كثيرةٍ، يفرضُ علينا جميعًا التفكيرَ في آلياتٍ واستراتيجياتٍ إبداعيةٍ في قضيةِ التضامنِ الاجتماعيِّ وأرى أنَّ هذا التضامنَ لا ينفصلُ عن مبدأ المواطنةِ والتنوّعِ الثقافيِّ، بل يرتبطُ بهما ارتباطًا وثيقًا.
كما يتَّصلُ مفهومُ التنوعِ الثقافيّ اتصالًا وثيقًا بإشكاليةِ الوحدةِ في إطارِ التنوعِ، والانسجامِ في سياقِ احترامِ الاختلافِ، ونظرًا لأنَّ مفهومَ المواطنة يقدّمُ إطارًا قانونيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا للتعايشِ الإيجابيّ بين مواطنين متنوِّعين ثقافيًّا، فإنَّ هذا يؤكدُ على ضرورةِ دراسةِ العلاقةِ بين المواطنةِ والتعدّديةِ الثقافيّةِ، تدعيمًا لدورِ التنوعِ الثقافيّ في بناءِ المجتمعِ، ودعمًا لعلاقةِ الانتماءِ المُشتَرَكِ في الوطنِ الواحدْ، وفي هذا الإطارِ تُسهمُ إدارةُ التنوّعِ -تحتَ مظلّةِ المواطنةِ- في تعزيزِ قيمةِ التضامنِ الاجتماعيِّ؛ إذ أنَّ التضامنَ لا يقفُ عند حدودِ الدعمِ الاقتصاديِّ، بل يمتدُّ إلى الشعورِ بالانتماءِ واحترامِ التنوّعِ والهُويَّاتِ المتعدّدةِ، والتكافلِ بين أبناءِ الوطنِ الواحدِ والعملِ سويًّا لخدمتِهِ، وهذا ما نصَّتْ عليهِ المادةُ الثالثةُ في الإعلانِ العالميِّ بشأنِ التنوّعِ الثقافيِّ، بوصفِهِ عاملًا محرِّكًا للتنميةِ، والتي تقولُ: “إنَّ التنوعَ الثقافيَّ يوسِّعُ نطاقَ الخياراتِ المتاحةِ لكلِّ فردٍ؛ فهو أحدُ مصادرِ التنميةِ، لا بمعنى النموِّ الاقتصاديِّ فحسبْ، وإنما من حيثُ هي أيضًا وسيلةٌ لبلوغِ حياةٍ فكريةٍ وعاطفيةٍ وأخلاقيةٍ وروحيةٍ مُرضِيةٍ”.
وواحد من أهمِّ آلياتِ إدارةِ التنوّعِ هو التماسكُ الاجتماعيُّ، الذي يتحقَّقُ بتحطيمِ القوالبِ التي تُصنِّفُ الآخرين؛ فالتصنيفُ والوصمُ يساهمانِ في هدمِ الآخرِ واستبعادِه، كما يتحقّق التماسك الاجتماعي أيضًا بالتعاملِ مع كلِّ دعاوى الكراهية التي لا تفكِّرُ في مصلحةِ الوطنِ واستقرارِه وأمنِه. ويهتمُّ التماسكُ المجتمعيُّ بما يمكن تسميتُه “إعادة التسمية” Renaming، والتي يمكنُ من خلالها معرفةُ الآخر كما هو وليس كما نتصوّرُه أو نحاولُ أن نتصوّرَه. هذه العمليةُ من إعادةِ التسميةِ لابد أن ترتبطَ بما يمكنُ تسميته بإعادة الصُّنع Remaking أو مبادراتٍ جديدةٍ غير تقليديةٍ يمكنها أن تساهمَ في العبورِ بالجماعةِ الوطنيةِ إلى أرضٍ جديدةٍ بها مساحاتٌ مشتركةٌ أوسع، ولديها قدرةٌ على احترامِ الاختلافِ.
المواطنة الحقَّة
*كنتم من أوائل المتحدّثين عن المواطنة، فماذا تعنى؟
** يمكن تعريفُ المواطنة باعتبارها “عمليةً شاملةً تتجاوزُ المساواةَ لتصلَ إلى العدالةِ بواسطةِ ربطِ الحقوقِ السياسيةِ بالحقوقِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ”. وبأنها تفاعلٌ بينَ الناس والجغرافيا، تتعلقُ بحقوق المواطنين وتتصلُ بالمكانِ المقيمين عليه، وتعززُ من شرعيَّةِ كلٍّ من المفهومِ الإقليميِّ والوطنيِّ.
وعلى المستوى السياسيِّ، يتنامى مفهومُ المواطنةِ من خلالِ التعايشِ ومجتمعِ المساواةِ، لكن هذه المساواةَ لن تتحققَ على المستوى السياسيّ بمفردِه، لذا يحتاجُ النقاشُ حول المواطنةِ إلى الاهتمامِ بالتنوعِ الثقافيِّ والدينيِّ في المجتمعِ، وهي آليةٌ لا تنحصرُ في النطاقِ السياسيِّ، بل ترتبط أيضًا بالعملِ المجتمعيّ. وهنا يتجلَّى دورُ المجتمعِ المدنيّ ليمُدَّنا بالأرضيَّةِ التي تعزِّزُ المواطنةَ. إنَّ نشرَ ثقافةِ التنوّعِ والتعدّديةِ للوصولِ إلى مواطنةٍ داعمةٍ للتنوّعِ، من أجلِ الوصولِ إلى مفهومٍ أشملَ للتضامنِ الإنسانيِّ، هو عملٌ تتشاركُ فيه أطرافٌ متعدّدةٌ؛ فالدولةُ من خلالِ التشريعاتِ والإجراءاتِ وسيادةِ القانونِ، والمؤسسةُ الدينيةُ من خلال الحرصِ على خطابٍ دينيٍّ متسامحٍ داعمٍ لقبولِ الآخرِ والعيشِ المشتركِ والصالحِ العامْ، ومؤسساتُ التنشئةِ (الحضانات والمدارس والجامعات) عليها دورٌ أيضًا لدعمِ ثقافةِ التعدّديةِ والتنوّعِ، ومنظّماتُ المجتمعِ المدنيّ بما لها من أدواتٍ وإمكاناتٍ تستطيعُ أن تعملَ بها في تعزيزِ مفهومِ التنميةِ المستدامةِ والتضامنِ الإنسانيِّ.
فالمواطنةُ الداعمةُ للتنوّعِ الثقافيِّ تنظرُ إلى التعدّديَّةِ باعتبارها فرصةً، وتعملُ على تعزيزِها وتُحسِّنُ إدارتَها، في سبيل دعمِ استقرارِ الوطنِ وسلامتِه وتقدُّمِه.
في هذا الإطارِ أؤكدُ أنَّ الحالةَ المصريةَ ليستْ بعيدةً عن هذا، وأنَّ ما تقومُ به الدولةُ في هذا السياقِ يدفعُ بهذا الاتجاهِ، وأنَّ التغييرَ الفكريَّ والثقافيَّ يحتاجُ إلى وقتٍ، وسيتحقَّقُ بكلِّ تأكيدٍ طالما أن هناكَ إرادةً وعملًا جادًّا مخلِصًا.
والتضامنُ الاجتماعيُّ يدعمُ خطواتِ العملِ بينَ الأطرافِ المتنوّعةِ من أجلِ حمايةِ كرامةِ الإنسانِ من خلالِ التمكينِ؛ فتمكينُ الإنسانِ من النهوضِ بمستواه المعيشيِّ ومستوى دخلِه، وكذلك تمكينُه بتنميةِ الوعي بقيمِ المواطنةِ لديهِ، وتمكينُه لإدراكِ أهميةِ التنوعِ واحترامِه، كلُّ هذا يدعمُ توجّهاتِ التنميةِ المستدامةِ.
التنمية المستدامة
*تعمل برامج الهيئة الإنجيلية على تحقيق التنمية المستدامة، فما أهم عناصرها من وجهة نظرك؟
** واحد من أهمِّ مؤشراتِ التنميةِ المستدامةِ هو بناءُ قُدراتِ أفرادِ المجتمعِ؛ فالإنسانُ هو هدفُ التنميةِ ووسيلتُها. وتعني عمليةُ بناءِ القُدراتِ تمكينَ المجتمعاتِ من ممارسةِ دورِها الحقيقيِّ في كافةِ مراحلِ العمليةِ التنمويةِ، ودعمَ قُدراتِ هذهِ المجتمعاتِ على التنظيمِ والإدارةِ ومواجهةِ التحدياتِ.
وأشيرَ هنا إلى عددٍ من المبادراتِ التي تبنَّتْها الدولةُ المصريةُ، في دعمِ قيمةِ التضامنِ، تحتَ مظلةِ المواطنةِ، ومنها مبادرةُ “كتف في كتف”، ومبادرةُ “حياة كريمة”، وكلُّها مبادراتٌ تأتي كجزءٍ من عمليةِ ترسيخِ الوعيِ بقضيةِ المواطنةِ وأهميتِها في دعمِ التماسكِ الاجتماعيِّ. وضرورةِ شموليةِ عمليةِ التنميةِ؛ فهي في كلِّ جوانبها مترابطةٌ، ولا يصلحُ العملُ على بُعْدٍ دون آخرَ في أبعادِها ومحاورِها. والتنميةُ الاقتصاديةُ مرتبطةٌ بتمكينِ الشخصِ وبناءِ قدراتِه، وهذا مرتبطٌ بتزكيةِ الوعيِ والمعرفةِ، ومرتبطٌ بإدارةِ التنوّعِ واحترامِه في سبيلِ تعزيزِ المواطنةِ الفاعلةْ.