بقلم دكتور سامح عبدالغني
وكيل كلية الإعلام – جامعة الأزهر
في ظل وتيرة الحياة المتسارعة، وفي خضم طوفان الاحتياجات الجسدية التي لا تنتهي، ونظرا لتنامي الأعباء المعيشية والحياتية، لجأ الكثير من الناس إلي الانكفاء علي ذواتهم، وتقليص علاقاتهم الأسرية، والعيش في حالة من العزلة الاجتماعية بعيدا عن العلاقات الأسرية والاجتماعية الدافئة الحانية التي كانت سبباً رئيسياً في تقوية روابط وأواصر التعاون بين الأفراد، وخلق حالة من التآلف والتناغم بينهم، ونشر حالة من البهجة والفرحة بقدوم مواسم الخير والطاعات، وعلي رأسها هذا الشهر المعظم الذي يهل علينا كل عام ممزوجا بالنفحات والبركات.
وقد أدي إلي ازدياد حالة العزلة والانكفاء هذه، وجود أدوات وأساليب اتصالية عززتها مواقع التواصل الاجتماعي ليتحول التواصل الاجتماعي الفعال إلي تواصل افتراضي يعتمد علي التهنئة بالمناسبات الدينية والاجتماعية وغيرها عن بعد، لتغيب عنا روح التكاتف والتلاحم والمودة والإخاء، ويفقد المجتمع بريقه الاجتماعي، وتراثه الشعبي، وقوامه الأخوي، وزاده الروحي، ومداده القيمي.
ومن فيض نعم الله علي خلقه أن يأتي شهر رمضان كل عام ليعيد للإنسانية ملامحها وقسماتها، ويضع لأواصر المحبة والمودة بصماتها، ويستأصل نوازع الشر والبغي والشحناء من جذورها.. إنه “شهر الخير” الذي يتسابق فيه الجميع ليستعيد ذاكرة التراحم والتلاحم.. إنه “شهر رمضان المعظم” الذي يلم الشمل، ويجمع ما فرقته الأيام والدهور، ويلملم شتات الأسر، والأهل والأقارب والأصدقاء.
يأتي هذا الشهر المبارك ليتسابق الجميع في خلق حالة من البهجة التي تشهدها التجمعات الأسرية والمؤسسية علي موائد الخير، والتي لا تقتصر علي الأغنياء، وإنما يتباري الجميع في استعادة روح المودة والمحبة فقيرهم قبل غنيهم، وصغيرهم قبل كبيرهم، ورئيسهم قبل مرؤوسهم.
إنه “شهر الخير” الذي ينفق فيه الجميع بسخاء تأسيا بالحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم الذي كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان.
إنه “شهر القرآن” الذي نزل في ليلة القدر علي نبي ذو قدر لأمة ذات قدر، وهو الشهر الذي يجتمع فيه الجميع علي هذه المائدة الربانية التي تعد فرصة ذهبية لاغتنام النفحات، وحصد الحسنات، وقراءة الآيات تلو الآيات، والتدبر في مقاصدها التي أرادها الله خالق الكون ورب البريات.
إنه “رمضان الخير” الذي يجود فيه الفقير بما عنده لتعمه البركة وتكثر حوله الحركة، وتمضي أيامه في يسر وطمأنينة ضاربا عرض الحائط بتقلبات الأيام، وشظف العيش ونوائب الدهر.
إنه “شهر الخير” الذي شهد انتصاراتنا الكبري، وملاحمنا العظمي التي وقفت شامخة لتكون شاهدة علي فضله علي سائر الشهور.
إنه “الشهر الفضيل” الذي يصفح فيه الجميع عن بعضهم البعض للفوز بالجنان، والعتق من النيران، وتناسي ما فات منذ زمن كان.
إنه شهر صلة الأرحام، وقيام الليل والناس نيام، والعمل الدؤوب لبلوغ المرام، والسعي الحثيث لتحقيق الآمال والطموحات العظام، وبلوغ المقاصد والغايات بدقة وإحكام.
إنه شهر التقرب إلي الله بالطاعات، وكثافة الفعاليات الدينية والدعوية التي تقوي صلة العبد بخالقه، وتنسج خيوطا من التذلل والتضرع والخضوع لرازقه.
لنسترجع أيامنا الخوالي ونجعل هذا الشهر الكريم المبارك سبيلاً لعودة العلاقات الأسرية والاجتماعية التي افتقدناها في مجتمع اليوم.. لنستعيد معا الوجه الإنساني والاجتماعي الذي ضيعت ملامحه تعاركات الحياة وغياهبها المظلمة.. لنعيش سويا حول سياج من التواصل والتراحم والمودة والإخاء لبجمعنا الله في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء.