في خِضَمِّ زحام الحياة، وتشابك العلاقات الإنسانية، حيث تمضي الأيام عجلَى بلا هوادة، وتمُر الشهور سريعة بغير تأنٍّ، تظل هناك لحظات تختبر إنسانيتنا، وتُوقظ فينا ما خبَّأته الحياة من مشاعر دفينة.
من بين هذه اللحظات، يجيء يومٌ تهمس فيه القلوب قبل الشفاه، وتنبض فيه الرحمة قبل الكلام، إنه يوم اليتيم، الذي يحتفلون به في الجمعة الأولى من أبريل في كل عام.
اليتيم هو من فقد والده، هو ذلك الكائن الهشّ الذي يقف في مهبّ الحياة بلا سند، ينتظر نظرة حنان، أو يدًا تمتدّ إليه لا تطلب مقابلًا. والإسلام بشريعته التي خُتمت بها الرسالات، لم يغفل عن هذا الإنسان الصغير؛ بل جعله في سويداء الاهتمام، وفي طليعة من حُقّ لهم الحنان والرعاية.
في القرآن الكريم، ذلك النور المُنَزَّل من فوق سبع سموات، تتكرّر إشارات رقيقة تدعو إلى الاهتمام باليتيم، كأنها نداءات مُضَمَّخة بالحب، تدعو الناس لأن يكونوا أوفياء لواجب الرحمة “فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ”.
آية تنهى عن القهر لا بالضرب فقط، بل بكل ما يوجع النفس ويكسر الخاطر.
ويُخبرنا القرآن أن الإحسان إلى اليتيم ليس فضلًا، بل واجب من صميم الإيمان، فيقول: “كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ”.
فالإكرام هنا أوسع من الصدقة، هو احتضان، وتقدير، وإشعار لليتيم أنه ما زال ذا قيمة في أعين الناس.
أما النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ في الرحمة ذروتها، إذ وعد كافل اليتيم بمرافقة لا تنفصم: “أنا وكافل اليتيم في الجنَّة هكذا”، وأشار بسبَّابته والوسطى، فما أروع القرب حين يكون في الجنّة، وما أعظم الأجر حين يكون بُشْرَى من رسول الرحمة!
لم تكن عناية الإسلام باليتيم مجرّد خطابٍ نظري، بل نسجت الشريعة حوله هالة من الحماية والرعاية.
حرَّمت أكل ماله، وأوجبت الإحسان إليه، بل وعدت من يقوم على شأنه بالخيرية المُطْلَقة.
وفي هذا، يقول الله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا”، في آيةٍ تهزّ الكيان، وتزرع الخشية في القلب.
إن كفالة اليتيم في الإسلام ليست عطاءً ماديًا فحسب، بل هي احتضانٌ وجداني، وتربية، ودمج في نسيج المجتمع؛ حتى لا يشعر بالنقص أو الغربة في وطنه وبين قومه.
يوم اليتيم ليس احتفالًا تقليديًا، ولا مناسبة تُزيّن ببعض الصور والورود، بل هو لحظة صدق بين المرء ونفسه، بين القلب وربّه، ليتأمّل، ويخاطب نفسه: هل مددت يدك يومًا تمسح بها دمعة يتيم؟
هل جعلته يبتسم في يومٍ ظنّ أن البهجة فيه مستحيلة؟
في عالمٍ تتسارع فيه الخطى نحو الماديات، يبقى اليتيم بحاجة إلى لمسة إنسانية، تبثُّ فيه الحياة، وتزرع فيه الأمل. فلنكن نحن صوت الرحمة، ويد العطاء، ورفقة الدرب لهذا القلب الصغير.
ولنجعل من كل يوم يومًا لليتيم، لا بالاحتفال، بل بالأفعال، والمحبّة، والبرّ، والإنسانية.