بقلم
د. حنان شبانة .. استاذ مساعد – جامعة تبوك سابقا
قال النبي (صلى الله عليه وسلم):” إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” (رواه البخاري).
هذا الحديث يعكس مبدأ جوهريا يضيء حياة الإنسان: النية هي جوهر الفعل، وما يحدد وجهته وقيمته. ولكن، هل تظل النيات ثابتة في زمن تغيرت فيه معالم الحياة واندفعت التكنولوجيا لتصوغ واقعا جديدا؟
في هذا العصر الرقمي، انبثقت ظواهر لم يعهدها السابقون، ولعل أبرزها ما يعرف بـالخلوة الإلكترونية. إنها تلك اللحظات التي نجد فيها أنفسنا منعزلين خلف الشاشات، نتواصل ونتفاعل، لكننا – في جوهر الأمر – نخوض اختبارا صعبا بين الظهور والاختباء. هذا النوع من الخلوة يتيح لنا الانفتاح على عالم واسع، لكنه – في الوقت نفسه – يضعنا أمام مسؤولية أخلاقية تُحاكي قول الله تعالى” يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ” (غافر: 19). فكيف يمكننا مواجهة هذا الاختبار الجديد دون أن نهدر قيمنا؟ وكيف نحافظ على الحياء وضبط النفس وسط زخم التكنولوجيا وسحر عزلتها؟
في ظل هذا التحول الكبير، أصبح مفهوم الخلوة الإلكترونية جديرا بالتأمل والدراسة. فبينما كانت العزلة قديما تعني انسحابا ماديا عن الآخرين، أصبحت الآن حالة افتراضية قد يعيشها الإنسان وهو في أكثر الأماكن ازدحاما. سواء أكان ذلك في محادثة خاصة، أم تفاعلا رقميا، أم حتى ألعاب إلكترونية، تبدو هذه الخلوة كأنها مساحة مريحة من الحرية. لكنها، في حقيقتها، تثير تساؤلات أعمق حول تأثيرها على القيم والأخلاق. هنا نجد الإسلام بوضوحه وتوجيهاته يحذر من كل ما قد يهز الحياء أو يقود إلى الفتن؛ فيذكرنا القرآن بدوره العظيم في ضبط السلوك الإنساني وقيادته نحو الاعتدال والرشاد.
ورغم أن الخلوة الإلكترونية تختلف عن نظيرتها التقليدية التي تتميز بالعزلة الجسدية، إلا أن كليهما يشتركان في خطورتهما على النفس والمجتمع. فقد تضعف الخلوة الرقمية العلاقات الأسرية وتزيد من مشاعر الوحدة والعزلة النفسية، وهو ما يدعو إلى ضرورة تحقيق التوازن. حينئذ يصبح تعزيز الرقابة الذاتية أمرا محوريا؛ لأن الانغماس في هذا النوع من العزلة دون وعي قد يؤدي إلى الانحراف عن القيم والضوابط.
وفي هذا الصدد، تأتي النصوص القرآنية لتحذر من مغبة الانجراف خلف الشهوات، والانحراف عن السلوك القويم. يقول تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ”(النور: 21). هذا التحذير ليس بعيدا عن واقعنا اليوم، ففي فضاء التكنولوجيا الذي لا يقيد بمكان أو زمان، يمكن أن تتحول الخلوة الإلكترونية إلى بيئة خصبة للانحرافات الأخلاقية.
لكن يبقى الحل دائما في العودة إلى قيم القرآن التي تنير القلب، وترشد السلوك. فالله تعالى يقول:” إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ” (آل عمران: 5). وهذا يذكرنا بأن الله مطلع على كل خافية، فلا مجال للتراخي في محاسبة النفس، أو التساهل أمام مغريات العزلة الرقمية.
ومع هذا التحذير الإلهي، تأتي أهمية تعزيز الوازع الديني، والالتزام بتعاليم الإسلام حتى في خلواتنا الإلكترونية. فالحياء وغض البصر قيمتان متأصلتان في الإسلام، وهما بمكانة حصن يحمي الإنسان من الوقوع في فتن هذا العالم. وعلى ضوء ذلك، يبقى القرآن الكريم مرجعنا الأول في تهذيب النفس وتحصينها ضد المخاطر التي قد تتخفى خلف شاشات صغيرة.
في نهاية الأمر، يبدو جليا أن الخلوة الإلكترونية ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي تحد يتطلب منا وعيا مستمرا بمآلاته. وفي زمن يفتح لنا فيه الابتكار أبوابًا غير محدودة، يبقى السؤال: كيف نحقق التوازن بين هذا الانفتاح التكنولوجي والتمسك بقيمنا الأخلاقية؟
إن القرآن الكريم يضع بين أيدينا إرشادات واضحة لتحقيق هذا التوازن. يقول تعالى:” إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ” (الإسراء: 36). كما يذكرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:” اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن”.هنا تكمن المسؤولية الحقيقية: كيف نسخر التكنولوجيا لتكون أداة بناء وتطوير، لا وسيلة هدم؟
وكما يقال:” إن العالم يتغير بفعل مثالك، لا برأيك “. إذن، هل سنكون ذلك المثال الذي يحتذى به في زمن يغلب عليه الانبهار بالتكنولوجيا؟ هل نستطيع تحويل خلواتنا الإلكترونية إلى لحظات من التأمل والارتقاء الروحي؟
يبقى القرار بأيدينا.
فلنجعل من تواجدنا الرقمي مصدر إلهام وقوة، لا سبب للانغماس في العزلة أو الابتعاد عن الله. يقول تعالى:” وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ” (البقرة: 110). فلنبدأ اليوم بخطوات واعية ومدروسة، ولندرك أن كل عمل صالح مهما كان صغيرا له أثر كبير في بناء أنفسنا ومجتمعنا.
إن التغيير يبدأ بخطوة واحدة؛ فلنكن أصحاب تلك الخطوة، ولنحول الفضاء الرقمي إلى ساحة خير وإلهام، تقربنا من قيمنا، وتضيء لنا الطريق نحو حياة أكثر وعيا وأخلاقا.