ما أعظم القائد الصامد المبشر ! وما أكرمه ! هو يبث روح الثقة في جنده، وينشر روح التفاؤل في جيشه، ويصب جوامع الكلم الطيب في القلوب ، كالمطر الهاطل على السهول، فيذكرهم ببشارة الله لعباده ، وجنة الله لأوليائه ، فإذا بالجنود على أثر تثبيت قائدهم ؛ قد ثبت الله أقدامهم ، وربط الله على قلوبهم، وسدد الله رميتهم، وأثقل بأسهم ، وجعل الدائرة لهم.
وستظل غزوة بدر الكبرى مَعلَمًا عريقًا، ودستورا منيرًا للناس في معاركهم مع الباطل ، والدرس الأكبر في انتصارالفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذن الله ، كما ستبقى مرجعًا مهما للعلاقة بين القائد وجنده، والأمير وجيشه ، دروسًا في الجندية والطاعة ،
والوحدة والتنظيم ، وروح الجماعة.
وسنذكر موقفين فقط للقائد الأعلى للأمة الإسلامية صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة الفضيلة يوضحان عظمة النبي المصطفى كقائد وقدوة
وكل موقف منهما سيحمل ملمحًا من ملامح النصر، كل موقف ستكون فيه إشارة إلى عامل من عوامل
نصر الأمة.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أمل اعتراض قافلة لقريش بقيادة أبي سفيان، ولكن الله أراد غير ذلك ، فقد افلتت القافلة ، وأصر أبو جهل للخروج إلى بدر لملاقاة المسلمين.
وحين علم المصطفى صلى الله عليه وسلم بمسير قريش إلى بدر لم يكن أمامه إلا أن يتخذ القرار المناسب لهذا الظرف الحرج ؛ فعقد الرسول صلى الله عليه وسلم مجلسًا استشاريًّا كبيرًا، تبادل فيه الرأي ليس فقط مع قادة الجيش ولكن مع عامة الجيش، فالقضية خطيرة.
فقام سيدنا أبو بكر الصديق وأيد الحرب ضد الكافرين، وكذلك قام سيدنا عُمَر بن الخطاب فقال نفس الكلام، ثم قام سيدنا المقداد بن عمرو وقال كلامًا رائعًا.
قال : ” يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبلُغَهُ “. سُرَّ رسول الله كثيرًا بكلام المقداد، ومن قبله بكلام سيدناأبي بكر وسيدنا عمر، لكنه ما زال يطلب الاستشارة ويقول : ” أشيروا عليّ أيها الناس
لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسمع رأي الأنصار ، الذين أعلنوا قبل ذلك موافقتهم على الخروج معه إلى القافلة، لكن الآن ليس هناك قافلة، هناك جيش وجيش كبير، والرسول يعلم أنه لو أمر الأنصار لأطاعوه، فهم في أعلى قمم الإيمان، لكن الرسول يذكر بيعة العقبة الثانية، وفيها بايع الأنصار على نصرة الرسول إذا قدم إليهم في المدينة، ولم يبايعوه على الحرب خارج المدينة. والأمر ليس فيه تكليف إلهي الآن فيسمع الجميع ويطيع، ولكنها الشورى. والرسول لا يريد أن يُكرِه الأنصار على القتال، فشتَّان بين مَن يقاتل وهو مكرَه، ومن يقاتل وهو راغب في الجهاد. ولا ننسى أن الأنصار ثلثا جيش المسلمين، هذا الطلب المتكرر للاستشارة لفت نظر سيدنا سعد بن معاذ؛ فقام وقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أجل”.
قال سيدنا سعد : “فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ، فَوالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَّا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّنَا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ”
ثم قال : “لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُونَ الأَنْصَارَ تَرَى حَقًّا عَلَيْهَا أَنْ لاَ تَنْصُرَكَ إِلاَّ فِي دِيَارِهِمْ، وَإِنِّي أَقُولُ عَنِ الأَنْصَارِ وَأُجِيبُ عَنْهُمْ، فَاظْعَنْ حَيْثُ شِئْتَ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعْطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَمَا أَمَرْتَ فِينَا مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنُا تَبَعٌ لِأَمْرِكَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غُمْدَانَ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ.
سمع الرسول هذا الكلام، فتحرك في منتهى النشاط، وقال للناس في حماسة: “سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَوَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ.
أما الموقف الآخر فعَنْ سيدنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ ، فَكَانَ أَبُو لُبَابَةَ الأَنْصَارِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَانَ إِذَا جَاءَتْ عُقْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالا : إِنْ رَكِبْتَ حَتَّى نَمْشِيَ عَنْكَ ؟ قَالَ : (( مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى عَلَى الْمَشْيِ مِنِّي ، وَمَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا )).
هاهو القائد الصالح الذي يشارك جنوده الصعاب ،
ويحفزهم على القليل والكثير من الصالحات، ليكون قدوة طيبة أخلاقية لجنوده في المنشط والمكره
فالقائد إذا ركن إلى لذة المهاد الوثير؛ حُرم لذة
المشاهد والمواقف.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على المبعوث رحمة للعالمين.