خلق الله تعالى الإنسان، وكلّفه بتكاليف وطلب منه أداءها، وأعطاه نعمة الوقت التي تعينه على ذلك، فالوقت سلاحٌ ذو حدين، فإذا استغله الإنسان وملأه بالأمور النّافعة كان خيراً له، وإن أساء استغلاله وملأه فيما يضرّه كان شراً له، والوقت في الإسلام له أهميةٌ كبيرةٌ، وله مكانةٌ عظيمةٌ/ فقد نبّه الله تعالى والرسول- صلى الله عليه وسلم- على أهمية الوقت، وأقسم الله في القرآن الكريم بأجزاءٍ من الوقت؛ فأقسم بالليل، والنّهار، والفجر، والعصر، وهذا تنبيه على أهمّيته، ويُعرف احترام الشخص للوقت من خلال مصاحبته ورفقته، وكيفية قضاء وقته واستغلاله، وبُعده عن مجالس اللغو والغفلة، وتنظيم وقته بين العبادة والسعي في طلب الرزق والعلم، وتأديته لحقوق الآخرين، وعدم الإكثار من النّوم فالوقت هو الحياة.
ولعل من أدق تعريفات الإنسان التي ذكرها الإمام الجليل الحسن البصري: الإنسان هو بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.
والوقت من أخطر الموضوعات في حياة الإنسان، ذلك لأنه إذا مضى لا يعود، لذلك ربنا جل جلاله في سورة قصيرة جامعة مانعة يقول ويقسم بمطلق الوقت، بمطلق الزمن فيقول سبحانه وتعالى: “وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ”.
خالق الإنسان العليم الحكيم يؤكد بالقَسَم بهذه الآية أن الإنسان خاسر لا محالة، لأن الإنسان بضعة أيام، وكلما مضى يوم انقضى بضع منه، لكن رحمة الله جلّ جلاله لهذا الإنسان أنه أشار في هذه السورة الجامعة المانعة في سورة العصر التي قال عنها الإمام الشافعي: “لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم” والتي كان بعض الصحابة لا يتفرقون إلا على قراءتها، فالإنسان خاسر لا محالة لأن مضي الزمن يستهلكه، لكن جاءت كلمة “إلا” لتثبت ما بعدها وتنفي ما قبلها، بمعنى أن الإنسان يستطيع تلافي هذه الخسارة عن طريق إدارة الوقت، فالإنسان إما أن ينفق الوقت إنفاقاً استهلاكياً، وإما أن ينفق الوقت إنفاقاً استثمارياً، وفرق كبير بين إنفاق المال استهلاكاً، وبين إنفاقه استثماراً، فإنفاق الوقت استهلاكاً هو كما يفعل معظم الناس في أرجاء الأرض، يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام، ثم يداهمهم الموت، عندئذٍ يقع الندم وتقع الخسارة “يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي”.
ننفق الوقت استهلاكاً حينما نسترسل على سجيتنا، ونفعل ما نرغب، ونلتقي مع من نرغب، ونستمتع بالحياة من دون تفكر بالعواقب، والنبي يقول: “أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلاثاً أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ” لمجرد أن يسهو الإنسان ويلهو إذاً هو ينفق الوقت إنفاقاً استهلاكياً، والخسارة كبيرة جداً عند انتهاء عمره، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى يبين في آيات كثيرة أن الإنسان سوف يندم، وهذا الندم دليل عدم استعمال عقله، لأن من شأن العاقل أنه لا يندم، وما دام الإنسان يندم إذاً لم يحسن إدارة الوقت والذي هو رسم هدف ثم تحقيقه، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: “أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”.
شتان بين من يمشي سوياً على صراط مستقيم، أهدافه واضحة، الوسائل التي تتحقق بها هذه الأهداف واضحة جداً، وبين من يمشي بعشوائية، فيسيئ أكثر مما يحسن، لكن رحمة الله عز وجل في كلمة “إلا” أي أيها الإنسان أنت خاسر لا محالة، إلا إذا فعلت كذا وكذا وكذا، هذه الأشياء الأربعة التي ذكرت في السورة هي في الحقيقة كما سماها الإمام الشافعي أركان النجاة، أربعة أشياء إن فعلتها أيها الإنسان كل يوم فقد نجوت من خسارة الوقت، نجوت من قول الله: “وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ”.
وهذه الأشياء الأربعة في قوله عزَّ وجلَّ: “إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ”.
فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران، الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم {وتواصوا بالحق} وهو أداء الطاعات، وترك المحرمات، {وتواصوا بالصبر} أي على المصائب والأقدار، وأذى من يؤذي، ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر.
فبالأمرين الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسارة، وفاز بالربح العظيم، وبذلك صارت هذه السورة بحق جامعة لأصول الرسالة.
فبالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة، تكتمل مقومات المجتمع المتكامل قوامه الفضائل المثلى، والقيم الفضلى
لأن بالتواصي بالحق إقامة الحق، والاستقامة على الطريق المستقيم، وبالتواصي بالصبر، يستطيعون مواصلة سيرهم على هذا الصراط، ويتخطون كل عقبات تواجههم، وبالتواصي بالمرحمة يكونون مرتبطين كالجسد الواحد.
وعندما يدرك المسلم أهمية الوقت فإنّه سيحرص على حفظه واستغلاله فيما يقربه من ربه، والمسلم مسؤول عن وقته يوم القيامة، فقد قال رسول الله: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ)) أي أن الإنسان سيُسأل أول في ما يُسأل عن نعمة الوقت، هل أحسن استغلالها؟ وقيمة الوقت تأتي بما يقدمه الإنسان وما ينتجه من أعمال يصلح بها حاله وحال أمته.
اللهم بارك لنا في أوقاتنا وأعمارنا وارزاقنا يا رب العالمين.