حوار: فتحي الدويدي
بدأ عاشقا لها منذ نعومة أظافره، واستمر مدافعا عنها عبر الأثير، قدم العشرات من البرامج في الاذاعة المصرية وإذاعات بعض الدول العربية، ليسلك من خلالها درب أساتذته الذين أتخذهم قدوة له؛ فسار على نهجهم ليكون أحد رواد الدفاع عن لغة القرآن.
إنه الاذاعي حازم طه صاحب المسيرة الإعلامية الكبيرة والمهمة خلال أكثر من أربعة عقود تفرد خلالها في تقديم مواد إعلامية ساهمت في خدمة لغتنا العربية ، فاستحق التكريم والتقدير من مجمع اللغة العربية وجامعة عين شمس خلال الاحتفال بيوم اللغة العربية هذا العام .
“عقيدتي” ناقشت معه في السطور التالية أزمة وهموم اللغة العربية في الاعلام عامة والمسموع خاصة.
كيف تقيم اهتمام الاعلام في وقتنا الحالى باللغة العربية؟
** بكل أسف أعلنها صراحة أن الإعلام لم يعد مهتما باللغة العربية وبرامج الثقافة العربية كما كان في السابق؛ ربما لقلة خبرة العاملين في الإعلام في الوقت الحالي، وأنهم لم يتلقوا الدراسة والتدريب الكافي في هذا المجال، وربما أيضا لأن لغة العصر أصبحت تسيطر عليهم، فهم يتحدثون لغة ضحلة تتوافق مع طائفة كبيرة من المستمعين، وهذا خطأ كبير ينبغي أن ينتبه إليه المسئولون فورا.
لماذا يلجأ الاذاعيون إلى اللغة العامية في أغلب البرامج، فيما يتجاهلون الفصحي، وهل هذا يؤثر سلبا علي لغتنا؟
** بكل تأكيد هذا السلوك تتأثر به اللغة العربية سلبا، وكما ذكرت سابقا فإن الكثير من المذيعين ومقدمي البرامج لم يتمرسوا على الأداء باللغة العربية كما ينبغي، ولم يجدوا من يوجههم للصواب، وإذا قارنا بين جيلنا والجيل الحالي، فنحن كنا دائما ندقق ونحقق ونبحث، حتي في البرامج غير المتخصصة في اللغة العربية، ومن كانت درايته محدودة بقاعدة لغوية أو طريقة إلقاء أونطق كلمة ما، يبادر باللجوء لأصحاب الخبرة من كبار الاذاعيين المتمكنين من اللغة، مثل الاستاذين القديرين فاروق شوشة وصبري سلامة ..وغيرهما، وكان المذيع الجديد يجلس صامتا في الاستوديو شهورا ليتعلم من المذيع الأكبر صاحب الخبرة .
كنا من جيل يسعى إلى تطوير القدرات بالتعبير باللغة العربية، وكان المستمعون خلال العقود السابقةيتواصلون معنا مؤكدين أنهم يتعلمون العربية السليمة من أفواه المذيعين من خلال البرامج والنشرات الاخبارية بالإذاعة، ولا أكون مبالغا إذا قلت أن نشرة الأخبار بالبرنامج العام كانت مرجعا لغويا، لا مجال للخطأ فيها، لأننا كنا ندقق ونراجع مراجعة جيدة، كما أن المسؤولين كانوا يراقبون كل كبيرة وصغيرة، وأي خطأ يسأل عنه المذيع فورا.
قدمت العديد من البرامج التي تهتم باللغة العربية في الاذاعة المصرية وبعض اذاعات الدول العربية، حدثنا عن أهم هذه البرامج؟
** اهتمامي باللغة العربية بدأ منذ الطفولة، فقد كنت دائما عاشقا لهذه اللغة وآدابها وتراثها العميق، وقد كنت أنقل وأنا صغير بعض المأثورات وكلمات الشعر وأحتفظ بها في دفتر صغير، وبات ذلك هواية عندي.
وقد كان عشقي للعربية دافعا للدارسة بكلية دار العلوم، التي ما إن تخرجت فيها والتحقت بالعمل بالاذاعة المصرية، أصبح هاجسا لدي أن أقدم البرامج التي تثري اللغة العربية وتعنى بها، وكان قدوتي في ذلك استاذان عظيمان هما فاروق شوشة وصبري سلامة، اللذين أعتز بهما، فسرت على أثرهما وسعيت سعيهما .
وبمجرد دخولي البرنامج العام، كان أول برنامج لي “أوائل الطلبة” وهو برنامج ضخم، أجوب به أنحاء مصر، ويشارك فيه مئات من الطلاب، هذا البرنامج كان يتضمن فقرة عن اللغة العربية، وقد كنت استمتع بإلقاء السؤال والشعر، وكان الجمهور أيضا يعجبون كثيرا بهذه الفقرة، ومن هنا فكرت في تقديم برامج أخرى.
وبعد رحيل استاذي صبري سلامة الذي كان يقدم برنامج “قطوف الأدب من كلام العرب” وكذلك رحيل الاستاذ علي عيسي الذي كان يشاركه في تقديم البرنامج الذي توقف لفترة، تقدمت بمقترح إلى الإذاعي عمر بطيشة الذي كان يترأس شبكة البرنامج العام آنذاك، لإحياء البرنامج مرة أخرى، وبالفعل عاد البرنامج، الذي أزعم أني تفوقت على نفسي في كتابته وتقديمه، وكانت كتابة الحلقة الواحدة تستغرق الساعات الطوال حتى أتم اختياراتي من أمهات الكتب وإعادة صياغتها في نص درامي مناسب، وكان يشاركني فيه المخرج أحمد أبوطالب ونخبة من كبار الفنانين ممن برعوا في الأداء التمثيلي باللغة العربيةمثل محمد وفيق وعادل هاشم ومدحت مرسي وأشرف عبد الغفور وغيرهم، وقد حصل هذا البرنامج على جائزة مهرجان الإذاعة والتليفزيون وغيرها من الجوائز في المحافل الدولية .
وقدمت أيضا برنامج “أضبط لغتك”، وكانت اختياراتي من أفواه المذيعين والخطباء وما ورد بالصحف، وكل خطأ تقع عليه عيناي، ألتقطه وأكتب عنه حلقة في هذا البرنامج، كما ساهمت في تطوير برنامج “قل ولا تقل” ليشمل وجبة نحوية ولغوية في دقيقة او دقيقتين، وقدمت أيضا برنامج “نفائس” وهو عرض وتوثيقلأمهات الكتب ونفائسها مثل الكامل للمبرد والعقد الفريد لابن عبد ربه وطوق الحمامة لابن حزم الأندلسي وغيرها.
وقدمت برنامج “مزالق لغوية” بإذاعة قطر وهو يشبه برنامج “أضبط لغتك”، وبرنامج “رحلة في المعاجم العربية”، استعرضت خلاله مسيرة المعاجم العربية بدءا بمعجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي إلى أخر المعاجم وأضخمها وهو المعجم الكبير لمجمع اللغة العربية، وهناك برنامج “صور القوافي” وتناولت خلاله روائع الشعر العربي، وبرنامج “روائع البيان العربي”، و”خزانة الأدب، و”شاعر ينشد”، وبرنامج “شخصيات من كتاب الأغاني للأصفهاني”، وتناولت خلاله تحليلا لعدد ٩٠ شخصية من شخصيات كتاب الأغانيووثقته الإذاعة في كتاب مطبوع من جزئين .
وهناك العشرات من البرامج الأخرى قدمتها خلال المناسبات المختلف وفي شهر رمضان منها: مشاهد من وحي الكلمة، كما حاورت كبار الخطاطين في برنامج “رحلة الخط العربي”، هذا إضافة إلى عدد من البرامج الدينية التي تعنى بالفصحى ومنها “نور وهداية” و”واحة الإيمان، والمجلة الإسلامية” .
كيف ساهمت مثل هذه البرامج في حماية ورعاية اللغة العربية؟
** من خلال أسماء هذه البرامج يتضح لنا كيف كان دورها في حماية ورعاية اللغة العربية، فمنها ماهو تصويب للأخطاء النحوية والأسلوبية، ومنها مايستعرض النماذج الرائعة من الإبداعات الأدبية شعرا ونثرا، ومنها مايقدم ثقافة تعريفية بمصادر المعرفة اللغوية والأدبية، إلى آخره، وكان المردود رائعا من خلال ردود الفعل من جمهور المستمعين، وإشادة الصحف بها، فضلا عن كبار الكتاب والإعلاميين من المهتمين باللغة العربية .وهنا يحضرني موقف أعتز به كثيرا وأعتبره شهادة تقدير عظمى لجهدي المتواضع، فقد تصادف أن التقيت بشيخ الأزهر الراحل د. محمد سيد طنطاوي في مناسبة عامة ولم أكن قد التقيت به من قبل، وعندما عرفت نفسي وأنا أصافحه فاجأني قائلا: حازم طه! اضبط لغتك؟ قلت: نعم، قال: أهنئك على هذا البرنامج العظيم الذي يقدم وجبة لغوية سهلة وميسرة في أقل من دقيقتين، وأنا حريص على سماعه يوميا كل صباح وأنا متوجه إلى مكتبي.
في ظل انتشار الكتابة بما يسمي لغة الفرانكواراب خاصة مع توغل مواقع التواصل الاجتماعي، هل هذا يعني أننا وصلنا لمرحلة قد تكون انحسار للغة العربية في الكتابة، سبقها انحسار بالحديث بها؟
** ما يطلق عليها لغة الفرانكواراب، هي آفة من آفات هذا العصر التي نتجت عن تغول التعلم في المدارس الأجنبية، وهذا لا يعني إنكار فضل هذه المدارس التي تعلم اللغات الأجنبية، لأن هذا شئ مهم وضروري خاصة وأن سوق العمل يتطلب إجادة لغات أخري بجانب اللغة الأم.
وللأسف الكثير من الطلاب في هذا العصر أصبحوا لا يركزون سوى على اللغات الأجنبية، ويتجاهلون اللغة العربية، وأدركت ذلك خلال تدريسي لمقرر “الالقاء واللغة” لطلاب الإعلام بإحدى الجامعات الخاصة، فكثير منهم لا يعرفون شيئا عن قواعد اللغة العربية .
وما الطريق للتصدي لحالة الانهيار هذه، في ظل تدني مستوي طلاب المدارس؟
** هنا ينبغي على وزارة التربية والتعليم أن تلزم مدارس اللغات والمدارس الأجنبية، وألا يرخص أو يجاز لها إلا بعد التأكد من وجود منهج خاص للغة العربية يكون النجاح فيه إلزاميا.
وما هو الدور الاهم للإعلام عامة والاذاعة خاصة في عودة لغة الضاد لسابق مجدها؟
** بكل تأكيد الاعلام شريك مهم وفاعل ورئيس في الحفاظ على اللغة العربيةوحمايتها، من خلال تكريس فكرة تعليم اللغة العربية بقواعدها السليمة بطرقة سلسة وغير مباشرة من خلال أداء المذيعين أنفسهم ومن خلال عودة الأعمال الدرامية الناطقة بالفصحى.
رغم أن المشرع المصري إهتم باللغة العربية وجعلها نصا في اكثر من مادة بالدستور، إلا أن هناك بعض البرامج أو الفقرات تستخدم مسميات أجنبية لها، ألا يعتبر هذا انتهاكا من قبل الاعلام للغة العربية التي من المفترض ان يكون هو كفيلا بحمايتها؟
** للاسف طغيان العامية في الكثير من البرامج أدت إلى تفشي وكثرة الأخطاء الشائعة في الاعلام مما أسهم في انتشار الكثير من المفردات والمصطلحات الخاطئة.
وبالنسبة لانتشار مسميات أجنبية لبرامج وفقرات بالبرامج الاذاعية والتليفزيونية، فهذا لا يجوز على الإطلاق ولابد من التصدي له من قبل القائمين والمسئولين عن وسائل الاعلام، فهناك شبكات متخصصة باللغات الأجنبية هي المكان المناسب لهذه البرامج مثل البرنامج الاوربي أو قنوات النيل باللغة الانجليزية.
أما استخدام مسميات بلغات أجنبية في برامج بالقنوات أو الاذاعات الوطنية الناطقة بالعربية فهوخطأ فادح يجب أن يتنبه له أصحاب القرار. ولابد وأن يكون عندنا حمية وغيرة على لغتنا العربية والسعي للحفاظ عليها لأن ظاهرة الألفاظ الأجنبية في مسميات البرامج الاذاعية والتليفزيونية تكرس الخطأ في أذهان المشاهدين والمستمعين، وقد ذكرنا سابقا أن المستمع يتعلم ويستمد ثقافته من وسائل الاعلام، لذلك يجب أن تكون رسالتنا الاعلامية تتوافق مع توجهنا العربي، لكن يمكن لنا اجازة استخدام هذه المسميات الاجنبية اذا كان هذا المسمي دخل لغتنا وأقره مجمع اللغة العربية.
هناك مشروع قانون أمام مجلس النواب لحماية اللغة العربية ينص في احد مواده بأن يلتزم “المذيع والضيف” في جميع البرامج بالحديث بالفصحى، كيف تقيم هذه المبادرة واهميتها في حماية اللغة العربية؟
** شخصيا رغم حبي وعنايتي باللغة العربية لا أحبذ مثل هذه القوانين، فلا يجوز أن ألزم الضيف أن يتحدث بالفصحي، وكذلك لا يستطيع المذيع الحديث بالفصحى كل الوقت، فهناك في الاعلام لدينا ما يسمى “عامية المثقفين”، هذا المصطلح أول من أطلقه الاذاعي الكبير فاروق شوشة؛ فرغم انه كان يمكنه الحديث لساعات بالعربية الفصيحة دون أخطاء، إلا أنه كان لا يحبذ ذلك، لأن المستمع إذا حدثته بالفصحى المقعَّرة لفترات طويلة سيكون ذلك صعبا بالنسبة له، وربما ينصرف عن الاستماع، خاصة أن الإذاعة تتوجه إلى كل مستويات الناس الثقافية، حتي في شبكة القرآن الكريم التي هي من أهم الشبكات التي تهتم باللغة العربية، نجد الكثير من العلماء الذين هم أهل الفصحي دائما ما يميلون بعض الشئ إلى العبارات التي تسهل وصول المعلومة للمستمع.
ومن هنا فإن “عامية المثقفين” هي الأولى في الاستخدام باعتبارها لغة وسطا بين العامية والفصحى يستطيع الشخص من خلالها أن يتحدث الفصحى ويغلفها بالعامية اللائقة التي ليس فيها سوقية، وهي لغة سهلة وبسيطة على أذن المستمع.
وكيف تري اتجاه بعض اساتذة الاعلام في الجامعات إلى استخدام مصطلحات اجنبية في محاضراتهم امام الطلاب؟
** استخدام المصطلحات الأجنبية في دراسة الإعلام قد تكون للضرورة، وربما هناك مصطلحات جديدة لم يتم تعريبها بعد، فلا بأس من تداولها واستخدامها.
وكيف يمكننا تعريب المواد الدراسية في كليات وأقسام الاعلام لتتفادي هذه الاشكالية؟
** هناك بعض المصطلحات من الصعب تعريبها خاصة في المواد العلمية التي تشهد تطورا بصفة دائمة، وانا لست مع فكرة التعريب المطلقة، فليست كل المصطلحات يمكن تعريبها، ويجب أن نضع الأمور في نصابها الصحيح؛،فهناك مكتشفات متجددة بصورة سريعة يصعب مواكبة التعريب لها، فالتعريب يكون لما يمكن تعريبه، وهناك الكثير من الكلمات دخلت العربية وأقرها مجمع اللغة العربية، لذلك فالتعريب لابد وأن يكون في إطار ما يقوم به مجمع اللغة العربية وليس بالشكل الذي يظنه البعض بضرورة تعريب كل كلمة أو مصطلح يرد إلينا من الخارج.
ونحن نحتفل باليوم العالمي باللغة العربية، كيف تري اهتمام مؤسسات المجتمع الدولى بلغتنا؟
** بكل تأكيد سعيد باهتمام المجتمع الدولي باللغة العربية، واعتمادها كلغة رسمية في الأمم المتحدة، وأصبح لها احتفال رسمي يصادف الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، وهذه شهادة عالمية بأن لهذه اللغة مكانة عالمية تستحقها عن جدارة واقتدار، لذا وجب علينا أن نرد هذا الجميل وأن نعتني بلغتنا وأن نكون نحن الأولى بالعناية والاهتمام بهذه اللغة حتي نقدمها للعالم كلغة واسعة تستطيع أن تستوعب التكنولوجيا الحديثة، ونستطيع أن نقدم من المصطلحات ما يواكب هذا العصر، وهذا ما يقوم به مجمع اللغة العربية بكل اقتدار من خلال العديد من اللجان التي تتولى عمليات الترجمة وتوصيف الكلمات، لكن للاسف كل هذه الجهود لا تلقي دعاية تستحقها، لذا وجب أن يكون لمجمع اللغة العربية منبر اعلامي خاص يمكن من خلاله تسليط الضوء عن هذه الجهود التي لا يعلم بها السواد الأعظم من الناس .
وكيف تري تكريم مجمع اللغة العربية لكم خلال احتفال المجمع بيوم اللغة العربية هذا العام؟