إذا كنّا نحن كمصريين نفخر بحفظ الله لبلدنا الحبيب مصر، وذِكْرها فى أكثر من ثلاثين موضعاً فى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهَّرة، تصريحا وتلميحا، ونردِّد دائماً مقولة إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي “مصر هي التي صَدَّرت علوم الإسلام إلى العالم كلّه، حتى إلى البلد الذي نزل فيه الإسلام”.
فَلَنا كذلك أن نعتز ونفخر بانتشار، بل انفراد المدارس القرآنية المصرية، فى العالم أجمع بأصواتها المتميّزة والمتفرّدة.
لكن هذا الفخر والاعتزاز بمكانة مصر الدينية، يُلقى علينا بمزيد من المسئولية تجاه ديننا الحنيف والعالم كله، لتبليغ رسالة ربّ العالمين نقيّة من أى شوائب أو تشويه، وأن نكون قدوة تُحتَذَى فى سلوكنا وخاصة قراءتنا وتلاوتنا لكتاب ربِّ العالمين.
مكانة مرموقة
ومن فضل الله علىَّ، أن يَسَّر لي زيارة بعض الدول فى القارات المختلفة، وقد عايشت لحظة الفخر والاعتزاز هذه، حينما كنتُ أستمع واستمتع بوجود المدارس القرآنية المصرية المختلفة، بأصوات أعجمية تُقلِّد أصوات مشاهير القرّاء المصريين، أمثال: الحُصرى، الطبلاوى، عبدالباسط، محمد رفعت، المنشاوى، شعيشع، الشعشاعى، بل حتى الأصوات الحديثة والمعاصرة مثل: الشحات أنور، الطاروطي، نعينع، ما يؤكّد أن هذه المدارس القرآنية المصرية مازالت- وستظل إن شاء الله- بخير، وإن كانت بحاجة لبعض الاهتمام والعناية لتُكمل “القوى الناعمة المصرية” مسيرتها.
فخلال تجوالى بجمهورية إيران- ضمن وفد صوفى برئاسة السيد علاء أبو العزائم، شيخ الطريقة العزمية، نوفمبر 2011م- فوجئت بسماع تلاوة القرآن تصدر من بعض المساجد الصغيرة، بصوت القارئ الطبلاوى وأخرى بصوت الشيخ عبدالباسط، وحين سألت عنها، جاءتنى الإجابة من المرافق: بأنها مدارس تحفيظ القرآن الكريم وتتم باعتماد أصوات مشاهير القراء المصريين، وهذا ما توضّحه عالمة اللغويات د. أكرم روشفنكر، مشيرة إلى أن عبدالباسط والمنشاوي لهما مكانة مرموقة لدى الشعوب المسلمة وخاصة الإيراني.
مصريون بالهندى
وتكرَّر نفس الموقف خلال زيارتى لبلاد الهند- وتحديداً إلى ولاية كيرالا، 2014- لحضور أحد مؤتمرات جامعة كيرالا نظّمه قسم اللغة العربية، برئاسة د. تاج الدين المنانى، وحينما سألت مرافقى د. نوشاد هديوى- رئيس القسم الحالى- فأجابنى بقوله: تقليد القرّاء أمثال عبدالباسط والمنشاوي أمر شائع لدى المدارس الهندية لتحفيظ القرآن. وذلك باستخدام وسائل التقنية الحديثة حيث يستمع الطلبة لقراءتهما ويتم تدريبهم على التلاوة على منوال هذه القراءة المصرية.
أُمّ الدنيا
وأثناء زيارتى إلى لبنان الحبيبة، شاركت في بعض حلقات تحفيظ القرآن، والتى ترتكز بالأساس على أصوات المدرسة المصرية، ويشير د. أحمد محمد قيس- رئيس المركز العلمى للدراسات والأبحاث القرآنية ببيروت- إلى أن مقولة “مصر أُمّ الدنيا فهى ليست مُحاباة أو تَزَلُّفًا، إذ أن قَصَب السَبْق لمصر يشمل العديد من المجالات والتخصّصات العلمية، كذلك العلوم الشرعية الإسلامية، ومن ضمنها أحكام التلاوة القرآنية والتجويد، فالمدرسة المصرية تُعتبر وبحق الرائدة فى هذا المجال، خاصّة مع إبداعات القرّاء فى المقامات، والتى ساهمت بدورها فى نشر الثقافة القرآنية فى كافة أنحاء المعمورة.
يستطرد د. قيس: وليس من الغريب أن نجد فى العالَمين العربى والإسلامى من يحتذى بالأساتذة الكبار من القرّاء المصريين، وحتى محاولة تقليد البعض منهم، بل الغريب- وهو ما لمسته شخصيا أثناء زياراتى المتعدّدة للمحروسة مصر- عزوف العديد من المصريين أنفسهم عن الاستماع للتلاوة القرآنية بأصوات العمالقة من القرّاء المصريين! والانبهار ببعض القرّاء الذين لا يرتقون الى مستوى الكبار أمثال: مصطفى إسماعيل، محمد رفعت، المنشاوى، عبدالباسط، الطبلاوى، الشعشاعى، شعيشع، الشحّات أنور، والسيد متولى وغيرهم كثير، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن القرّاء اللبنانيين- لاسيما المشهورين منهم- أمثال: عباس شرف الدين، أنور مهدى، حسين حمدان، حمزة منعم، محمود المقداد، يعتمدون بشكل شبه كُلِّى على المدرسة القرآنية المصرية سواء فى التلاوة أو التجويد، وإن كان هناك من فضل على قرّاء لبنان- بعد الله سبحانه- فهو لانتهاجهم المدرسة المصرية العريقة والمتميّزة، والتى يعشقها الشعب اللبنانى.
قرَّاء أذربيجان
ولم أستغرب أن تقع مسامعى على أصوات مشاهير القرّاء المصريين، خاصة الشيخ عبدالباسط أو الحصرى والطبلاوى، حين زيارتى مؤخَّراً إلى أذربيجان، سبتمبر 2022م- تلبية لدعوة وزارة الخارجية، ممثلة فى الصديق د. إيميل رحيموف، المستشار الثقافي والإعلامي السابق بسفارة أذربيجان بالقاهرة- ويؤكّد هذا الانطباع، د. سيمور نصيروف- رئيس جمعية الصداقة والجالية الأذربيجانية فى مصر- بقوله: لاشك أن العالم كلّه تقريبا يُقلِّد المدرسة المصرية، فالمصريون عبر التاريخ معروفين جدّا بالقرّاء، حتى أن هناك مقولة مشهورة جدا: (القرآن نزل فى بلاد الحجاز، وقُرئ فى مصر). وكلّنا فى أذربيجان أيام الاحتلال السوفيتى- بأيديولوجيته- كان ممنوعا علينا قراءة القرآن، لكن بعد الاستقلال بدأ الأذربيجانيون يبحثون عن حفظ القرآن وقراءته والتجمُّل فى الأصوات وتقليد الأجمل، ولم يكن معروفا حين ذاك إلا عبدالباسط عبدالصمد ومحمد صديق المنشاوى ومصطفى اسماعيل، وأنا لى ذكريات جميلة عن عبدالباسط، ومدى حبّى الشديد له، حتى أنه أحد الأسباب الرئيسية لقدومى إلى مصر، ومعظمنا يُقلِّده وهذا ليس سهلا لكن أحبابه كثيرون، وقد سافرت لإيران خصّيصا لشراء “شريطين” بصوت عبدالباسط! وكنت أستمع لهما ربما لأكثر من مائة مرة يوميا، خاصة الفاتحة والبقرة وقصار السور فى الجزء الثلاثين.
والحقيقة أن عبدالباسط له مكانة عالمية وقد التقيت رئيس اتحاد الطلاب الباكستانيين سابقا فى مصر وسألته: بأى شئ تعرفون مصر؟ فأجاب: بالأزهر الشريف وعبدالباسط.
يضيف د. سيمور: ومعظم، بل كل القراء الأذربيجانيين، يقلّدون القرّاء المصريين حتى الحديثين منهم مثل: السيد متولى، محمد أنور الشحات، أحمد نعينع، فى المساجد والتليفزيون والاحتفالات، وقبل أسبوع شاركت فى المنتدى الدولى للعلوم الدينية وكان الافتتاح بصوت مُقَلِّد للمصريين، ونفس الشئ هناك أكبر مسجد إمامه ومؤذّنه يقلّدون المدرسة المصرية، وهذا الأمر ليس قاصرا على بلادنا فقط بل كل العالم إذا استمعت إلي قُرَّائه ستجدهم يميلون للمدرسة المصرية.
القارة السمراء
أما فيما يتعلّق بالأشقاء فى القارة الأفريقية، فحدِّث ولا حَرج، عن التأثير البالغ والكبير للمدارس القرآنية المصرية، بحُكم العلاقات الوطيدة والروابط الأُسرية، ووشائج الأخوّة، والجذور الأزهريّة الممتدة فى كل دول القارة السمراء تقريباً، وكما يقول أبو بكر سانيا- رئيس دار القرآن، نيوجور، إقليم فاتك ومقاطعة فونجون بدولة السنغال-: تقريبا كل المدارس ومكاتب تحفيظ القرآن السنغالية إنما هى صورة مطابِقة تماما للمدرسة المصرية، تلاوة وتجويدا، غير أننا بحاجة ماسَّة للدعم لاستكمال مسيرتنا فى تحفيظ كتاب الله، فلدينا عجز فى توفير لوازمنا التعليمية بل الأساسية، وعلى رأسها: الأماكن المجهّزة لتحقيق هذا الهدف النبيل والسامى، من حيث التجهيزات والغُرف ودورات المياه، وتوفير المياه فليس لدينا سوۍ بئر واحدة وهي غير قادرة علۍ توفير الماء اللازم للمركز.
يتفق معه خليفة بابكر لوح- مدير مدرسة دَار مَامْ مُور إِسَ لوح، بالمنطقة التعليمية: يَمْبَلْ سِيدَ، دكار، السنغال- مشيرا إلى وجود أربعين طالبا فى مكتبه لتحفيظ القرآن متأثّرون بمدرسة “المنشاوي”.
ويؤكد الشيخ على جوب- مدير أحد مكاتب التحفيظ بالسنغال- أن طلبته يقلِّدون محمود خليل الحصري برواية حفص.
ويقول عبدالله كاجاما- من نيجيريا-: عندنا المدارس القرآنية تعتمد على المنهج المصرى، وهناك من يقلّدون القرّاء المصريين، ولكن كلها بالجهود الذاتية.
الساحة التونسية
وعن تونس يشير الداعية التونسي د. بدري منور المدني، إلى أن المدرسة التونسية تتذبذب، فقد كانت بدايتها مع الشيخ المقرئ على البرَّاق، ويعتمد على قراءة قالون، ولكن على مستوى المقامات يقرأ بما يسمّى المذموم وبعض المقامات التونسية الأخرى، وقد تُركت المدرسة المصرية حاليا وبقى البعض الذى يحنُّ لصوت عبدالباسط أو الطبلاوى، غير أنها خرجت من تونس لصالح المدرسة السعودية والتوجّه نحو السُديسى، وأكثر قرّاء تونس اليوم يقرأون بالقراءة السعودية، وليست لنا أصوات واضحة فالمدرسة التونسية مُفْرَغة فى باب قراءة القرآن الكريم، وصارت “خليطا” ونادرا من يقرأ بها أو بالمصرية، وليس لنا مشاهير ولا هُوية تونسية قرآنية!