تجديد «الخطاب الإسلامي» في المستحدثات والنوازل وبأيدي العلما
لا نفرط في الثوابت والأصول الدينية بأي شكل
التطاول علي الرموز جريمة منكرة ومعاناة العلماء من الصغار قديمة
نحن مع التراث دون انكفاء عليه.. ومع المعاصرة دون ذوبان فيها
حوار: أحمد شعبان
تصوير: ياسر قناوي
عندما فكرت في إجراء حوار مع العالم د. أحمد محمود كريمة- أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر- واجهتني مشكلة كبيرة، كيف أدير هذا الحوار؟ ومن أين أبدأ؟ لأن عالمنا فقيه معاصر من الدرجة الأولي، وموسوعي وداعية شهير له تاريخ كبير ملئ بالمؤلفات العلمية والفكرية وبالمواقف الشجاعة، لا يخش في الحق لومة لائم، واجه بفكره وعلمه جماعة الإخوان وكشف فكرهم الزائف فتعرض للتهديد والوعيد.
كما خاض د. كريمة الكثير من المعارك من خلال فتاواه الفقهية وآرائه الجريئة والتي وصفها البعض بأنها مثيرة للجدل، حتي أصبحت أخباره وأحاديثه متداولة علي السوشيال ميديا ووسائل التواصل الاجتماعي كل يوم، وتعرض للنقد من عدة جهات، ولكنه وقف صامداً مدافعاً بشرف عن الشريعة الإسلامية.
ولذلك حرصت «عقيدتي» علي إجراء هذا الحوار الذي أباح فيه بالكثير من الأسرار التي خصَّنا بها فكان هذا الحوار >«عقيدتي»: نود من فضيلتكم التعرف علي رؤيتكم لمعني تجديد الخطاب الديني الذي اختلفت الآراء حول مفهومه؟ وما هي ضوابطه ومن له حق التحدث في التجديد حتي لا يكون متاحاً لكل من هب ودب؟
>> عملاً بقول الله تعالي في سورة الأحزاب «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَيٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا»، وقوله تعالي في سورة العصر: «وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ»، فإن لي تحفظ علي مسألة الخطاب الديني، لأنه مصطلح فضفاض يشمل اليهودية والمسيحية والإسلام، وبطبيعة الحال نحن لا شأن لنا بغيرنا، فأري أن ضبط المصطلح ليكون «الخطاب الإسلامي».
في عام 2011 أطلقت دعوة وأصدرت كتاباً بعنوان «خطاب إسلامي معاصر»، فالدقة تقتضي أن نقول: تجديد الخطاب الإسلامي ليكون خاصاً بالشريعة الإسلامية وليس بغيرها، أما الخطاب الديني يشمل الشرائع المنسوبة إلي السماء.
إن تجديد الخطاب الإسلامي إنما يكون في المستحدثات والمستجدات والنوازل والطوارئ والعوارض، بمعني لا يكون في الثوابت ولا في القطعيات ولا الأصوليات ولا المعلوم في الدين بالضرورة، ولا يكون أيضاً في المسكوت عنه، فالنبي فيما رواه الدارقطني قال: «لإن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها».
وأخص جريدة «عقيدتي» بهذه المعلومة التي لم يسبقني فيها إلا عالم واحد رحمه الله، أن المسكوت عنه يسمي في الفقه المعاصر «فراغ تشريعي مقصود للإجتهاد»، وضوابطه بأيدي العلماء والخبراء فقط في الأزهر باعتباره لا طائفياً ولا مذهبياً، فإذا أردنا التجديد يكون بأيدي العلماء والخبراء، وتغل أيادي غير هؤلاء.
>«عقيدتي»: إذن ما ردكم علي من يروجون أن الإسلام عدو التنوير ويصفونه بالرجعية والظلامية والتخلف؟
>> يجب أن نتحاكم إلي القرآن الكريم وإلي النبي، والقرآن الكريم بين أن تشريع الإسلام مُحكم قال تعالي: «ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَي الْقُلُوبِ»، لا نقبل التفريط في ثوابتنا ولا قطعياتنا ولا أصولنا ولا المعلوم بالدين بالضرورة بأي شكل من الأشكال، ولا يخدعوننا بكلمة التنوير، أما النبي فقال: «إن الله يبعث علي رأس كل مائة عام من يجدد للأمة دينها»، والمقصود هنا العلماء والخبراء المتخصصون وليس السفهاء الطفيليون.
إن غلاة الشيعة وكذلك فرق المتسلّفة، وجماعات ما يُسمَّي بالإسلام السياسي سواء كانوا الإخوان أو الدواعش أو بوكو حرام لا يصلحون لتجديد الخطاب الإسلامي، لأنها جماعات طفيلية، والله تعالي حرّمها وجرّمها في القرآن حيث قال تعالي في سورة الأنعام: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ»، وقال في سورة الشوري: «أقيموا الدين ولا تفرقوا»، وفي سورة الروم: «وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»، وفي سورة آل عمران: «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا».
وقال بصراحة شديدة: شئون الشريعة اليهودية لا يتحدث فيها إلا الحاخامية، وشئون الشريعة المسيحية لا يتحدث فيها إلا المجمع المقدس والكنيسة، الشئون الإسلامية كلأً مباحاً الآن، فلابد من مراعاة الاختصاص، كما جاء في قوله تعالي في سورة النساء: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَيٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ «.
الأزمة الأخلاقية
>«عقيدتي»: تعاني أمتنا من أزمة أخلاقية الآن.. فما خطورة هذه الأزمة وما هي أسبابها وكيف مواجهتها؟
>> الأزمة الأخلاقية عالمية وليست محلية، والعالم أصبح في ثورة الاتصالات والسوشيال ميديا قرية صغيرة، ولكن للأسف نحن لم نغتنم الحصانة التي جعلها لنا الإسلام، والنبي قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
وبعض المسلمين يتعبّدون في مذاهب في الدين وليس بذاتية الدين، هذا سني وهذا شيعي وهذا إباضي، فهل الرسول بعث ليؤسس هذه المذاهب؟ بالطبع لا، الرسل أرسلت لدين «إن الدين عند الله الإسلام» ولمسمي وصبغة واحدة «هو سماكم المسلمين».
نحن الآن نتناطح ولا نتناصح، فإذا أردت الدواء لهذا الداء، العود إلي صحيح الإسلام، ولدي مشروع اسمه «المحجة البيضاء لفلترة الإسلام عن المذاهب الطائفية»، فالمذاهب تظل علمية في قاعات البحث بأيدي العلماء، ولكن إذا أدت المذاهب إلي طائفية، فقد بعدنا كثيراً عن جوهر الإسلام الذي جاء به النبي..
تراجع المسلمين
>«عقيدتي»: لماذا تراجع المسلمون عن ركب التقدم والحضارة حتي أصبحوا صورة سيئة للإسلام.. وكيف يمكن استعادة عزة وكرامة الأمة؟
>> زمان عندما أعلي العلماء والخبراء قال النبي: «إن لهذا الدين إقبال وإدبار، قالوا: وما إقبال الدين يا رسول الله؟ قال: أن تكون القبيلة كلها علماء ما عدا الرجل والرجلين محتقرين لجهلهم، وأما الإدبار أن تكون القبيلة كلها جهلاء، ما عدا الرجل أو الرجلين عالمين فهما محتقرين»، فحينما احتقرنا العلماء وهمَّشنا الخبراء، ووسدت الأمور إلي غير أهلها، وأصبح الخطاب العلمي يصرف عليه في أضيق الحدود، تراجع المسلمين عن ركب الحضارة والتقدم، فالإسلام لم يتخلف، المسلمون هم الذين تخلفوا.
المواطنة في مصر
> «عقيدتي»: يحاول البعض المتاجرة بقضية الوطن والمواطنة حتي ادعي بعضهم أن الإسلام يرفض فكرة الوطن ويدعو للخلافة؟
>> لا توجد خلافة سياسية في الإسلام، حيث قال النبي: «ستكون خلافة بضع وثلاثون عاماً»، خلافة دعوية علي منهاج النبوة وهي خلافة سيدنا أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي والحسن، ثم تكون ملكاً متغلباً، ثم ملكاً عضوداً، وهذا يدحض ويجهض دعاوي الإخوان والشيعة والدواعش، وأقول لهؤلاء الثلاثة الذين يسموا عند العلمانيين بالإسلام السياسي: لا توجد خلافة سياسية ولكن توجد خلافة دعوية لمصلحة الدين، كما قال الرسول عن الخلافاء الراشدون المهديون: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»، الذين يحمون الدعوة.
فإذا أردنا المواطنة أن تكون مخلصاً وصادقا للوطن محبا له، والرسول صلي الله عليه وسلم بيّن مواطنة مصر: «تكونُ فتنةٌ أسلم الناسُ فيها الجندَ الغربيَّ: يعني في مصرَ»، فالمواطنة هنا في مصر.
الفكر التكفيري
> «عقيدتي»: استباح هؤلاء المتاجرون بالدين والدماء والأموال والأعراض لمن يخالفونهم، فما خطورة هؤلاء وما هو تحليلكم لأفكارهم الضالة؟
>> معظم الشباب وخاصة الذين ينتمون إلي الإخوان وداعش مغرَّر بهم، لأنهم وقعوا تحت تأثير مُضلِّل إما تأويلات باطلة للنصوص الشرعية، مثلما أخذوا آيات القتال الدفع وليس الطلب وجعلوها علي المسلمين، متسائلاً: هل تم وضع استراتيجة معالجات ومداواة للفكر التكفيري والسلوكي وإتلاف الأموال وانتهاك الأعراض والغلو والتنطع والتكفير والتشريك والتجهيل والتفسيق؟ بالطبع لا، ومن لديه هذه الاستراتيجية يقدمها للرأي العام.
والسباب والإدانات لن تحل المشكلة، وكذلك العصا الأمنية وحدها لن تحل المشكلة مع هؤلاء، بل قد تقضي علي المشكلة في إطار زمني ضيق، ثم ينبت الإرهاب مرة أخري، ولكن لابد أن يتم عمل تدابير وقائية احترازية وتدابير زجرية.
وقد وضعت استراتيجية من خلال مؤسسة التآلف لمواجهة الفكر المتطرف والإرهابي والغلو والتشدد، وألَّفت 10 كتب في نقد الإرهاب، منها: «حرية فكر أم حرية كفر، وأول كتاب في نقد الدواعش من الناحية الفقهية، والإسلام والفرق المعاصرة، فتنة المتسلفة، نقد الشيعة، وأول كتاب في نقد جماعة الإخوان من الناحية العلمية، والإرهاب».
وأحضرت كتاب سيد قطب «معالِم في الطريق» النسخة الأصلية قبل أن يُزوَّر بعد استيلاء جماعة الإخوان علي الحكم، حيث كلّفني شيخ الأزهر الأسبق الشيخ جاد الحق علي جاد الحق- رحمه الله- بفحص كتابين لمصطفي مشهور «القدوة علي طريق الدعوة»، «من التيار الإسلامي إلي شعب مصر»، حيث قال مشهور: «إن من يبايع المرشد حسن البنا فإنما يبايع الله»! وقرر في كتاب «أن جماعة الإخوان وحدها تملك الحق والحقيقة»، وهذان التقريران موجودان في مجمع البحوث الإسلامية، وفيهما التوصيات والحلول لعلاج الإرهاب وعلي رأسه الإخوان.
التدين الظاهري
> «عقيدتي»: التدين الظاهري حول الإسلام إلي طقوس وعبادات بلا معني.. فما أسبابه وخطورته وكيف يمكن معالجته؟
>> المتسلِّفة تركوا جوهر الدين وجرّوا المجتمع إلي ثقافة الشعور مثل طول اللحية والثياب السُفلية للرجال الإسبال ونقاب النساء، وأخذوا المجتمع إلي بول الإبل والحجامة وتفسير الأحلام وطب الأعشاب، وصار المجتمع يتعبّد بالشعائر، وعلاقة المسلم بالإسلام الصلاة والصيام والاعتكاف والزكاة والحج والعمرة، وأصبح فقه المعاملات وفقه الأخلاق بكامله مُغيّب عن التطبيق العملي.
الأحوال الشخصية
>«عقيدتي»: كيف تري محاولة البعض لإبعاد الأزهر أو تهميشه عن مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد؟ وما أهم مطالبك في مشروع القانون الجديد حتي لا يتحول إلي وسيلة لإشعال الخلافات الأسرية ومحاباة للمرأة علي حساب الرجل؟
>> لدي ملف عن قضايا الأسرة ومشروع التوعية الأسرية، وقد قلت في الإعلام مراراً: إن فقه الأسرة أو الأحوال الشخصية إذا أضفنا أحكام ما بعد الموت كالوصايا والمواريث، هذه الأمور جزء من التشريع الإسلامي، فقضايا الأسرة في المجتمع اليهودي بأيدي الحاخامية اليهودية، وقضايا الأسرة في المجتمع المسيحي في يد الكنيسة بطوائفها، أو المجمع المقدس، وقضايا الأسرة عند المسلمين تكون بأيدي مرجعية الإسلام الأزهر، لكن البعض يريدون تنحية الأزهر.
ومشروع الأحوال الشخصية يكون بأيدي الأزهر وخاصة الفقهاء، لأنه ليس كل من في الأزهر يصلح للإفتاء الفقهي، فلابد أن يعود إلي أيدي الفقهاء، نأخذ من التراث دون إنكفاء عليه، ونجتهد في الأمور المعاصرة دون ذوبان فيها، ونراعي حدود الله في مقدمات ومكونات ومتممات عقد الزواج، وفي فرق الزواج من الطلاق والخلع واللعان والظهار وما يتعلق بذلك من آثار مثل الرؤية والحضانة والنفقات، فلا تنزع ولاية الأب حال الحضانة عن التعليم وعن التربية علي أولاده، ولا يتلاعب بسن الحضانة عند النساء.
الهجوم علي الشعراوي
«عقيدتي»: كيف تري الهجوم المتكرر علي إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي من قبل بعض الإعلاميين، وأسباب هذا الهجوم ؟
د. كريمة: اتجاه العلمانيين ومن علي شاكلتهم التطاول علي الرموز والطعن في الثوابت والقطعيات وأصول الدين بغية التشكيك، وهذه جريمة منكرة، لكن بفضل الله عز وجل تبقي قامات العلماء محفوظة عند ربهم وعند المحبين لهم، لأن الله كرمهم في قوله تعالي: « شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ»، وقال تعالي: « يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»، وفي الحديث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إن فضل العالم علي العابد كفضل القمر علي سائر الكواكب، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء».
وأضاف: معاناة العلماء من بعض الصغار قديمة، إما بسبب الكيد أو الحسد أو المكر أو محاولة الظهور وعمل إضاءة كاذبة وخادعة، لكن تبقي الكلمة الأخيرة « إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا»، والشيخ الإمام الموسوعي النوراني سيدنا محمد متولي الشعراوي لن تهزه في حياته ولن يهز مقامه بعد انتقاله سفاهات السفهاء، وهؤلاء يصدق عليهم قول الشاعر: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد، وينكر الفم طعم الماء من سقم، وقوله: كناطح صخرة يوماً ليوهنها، فلم يضرها وأوهي قرنه الوعل.
وقال: سيبقي الإمام الشعراوي وعلماء الإسلام مهما حاول الصغار، لكن سيرتد مكر من تطاول علي العلماء والقامات الكبيرة إلي نحورهم ويببقي العلماء في أعلي مقام، مضيفاً: «العمامة البيضاء وحدها مستهدفة، ولا يجرؤ أحد أن يمس رموزاً أخري، ونحن لا نريد لأحد أن يهاجم حاخام يهودي، أو يهاجم رتبة كنسية مسيحية، لكن الذي يبعث علي الدهشة والعجب أن هؤلاء لا يصوبون سهامهم إلا للعمائم الببيضاء التي تحافظ علي علوم الإسلام».