بقلم د. حنان شبانة
أستاذ المساعد بجامعة تبوك سابقآ
تُذكرنا الآية الكريمة: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء: 85) بعظمة الله تعالى وحدود المعرفة البشرية مهما تقدمت الوسائل والتقنيات. ورغم ذلك، فقد أعلت الشريعة الإسلامية من قيمة العلم والإتقان، حيث قال النبي (صلى الله عليه وسلم):”إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” (رواه أبو يعلى).
وفي ضوء التطور السريع الذي نشهده اليوم، برز الذكاء الاصطناعي كأداة فعالة تتيح استكشاف آفاق جديدة في معالجة البيانات والمعلومات، وهو ما يطرح تساؤلات حول إمكانات توظيف هذه التقنية لخدمة العلوم الشرعية وتثبيت الهوية الإسلامية في عصر التقنية.
ويعد الذكاء الاصطناعي وسيلة مبتكرة لدراسة وفهم النصوص الشرعية بعمق أكبر. فمن خلال تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP)، أصبح بالإمكان تحليل النصوص القرآنية والحديثية وتصنيفها بدقة، مما يساعد على تيسير الوصول إلى المعاني وتوضيح الفروق الفقهية بين المذاهب المختلفة. كما باتت أدوات الذكاء الاصطناعي قادرة على تقديم شروحات مبسطة تتناسب مع مستويات معرفية متعددة. من جهة أخرى، وفرت منصات الفتوى الرقمية حلولا سريعة وموثوقة، تتضمن بيانات دقيقة تعزز الدقة والشفافية. وبالإضافة إلى ذلك، أضحت تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز وسائل تعليمية تفاعلية تحاكي قصص الأنبياء، وأركان الدين الإسلامي، مما يجعل التعلم الشرعي تجربة ممتعة، وجاذبة للأطفال، والشباب.
ومع كل هذه الإمكانيات، يبقى التنوع الثقافي والمذهبي في العالم الإسلامي تحديا بارزا أمام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجالات الشرعية. لذا، من الضروري تصميم أدوات مرنة تواكب اختلافات المدارس الفقهية، مع تطوير قدرات متقدمة لفهم اللغة العربية بدقة باعتبارها المدخل الأساسي للنصوص الشرعية. ولتحقيق ذلك، ينبغي تعزيز التعاون بين علماء الشريعة والمختصين في الذكاء الاصطناعي لبناء أدوات تقنية متكاملة تترجم إلى لغات متعددة، ما يسهم في إيصالها إلى المسلمين في مختلف أنحاء العالم.
كما تبرز الحاجة إلى إطار تنظيمي وأخلاقي واضح ينظم استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا المجال. فتأسيس هيئات مختصة تضم علماء الدين، وخبراء التقنية خطوة ضرورية لضمان توافق الأدوات المطورة مع مقاصد الشريعة الإسلامية. إضافة إلى ذلك، يعد وضع ميثاق أخلاقي يحدد معايير النزاهة والشفافية خطوة أساسية لمواجهة أي تحيز برمجي قد يشوه نتائج التحليل، أو يفسر النصوص خارج سياقها الصحيح.
وعلى أرض الواقع، بدأنا نشهد تطبيقات عملية متنوعة. فمثلا، ظهرت منصات “الفقيه الرقمي” التي تقدم خدمات إصدار الفتاوى، وشرح النصوص الشرعية بدقة وسهولة. إلى جانب ذلك، يمكن تطوير برامج تعليمية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتقديم القيم والمفاهيم الإسلامية بأساليب عصرية محفزة للأطفال والشباب. وعلى المستوى الأكاديمي، يسهم الذكاء الاصطناعي في دعم الباحثين في تحليل النصوص واستنباط الأحكام، مع ضرورة وجود إشراف علمي يحافظ على دقة النتائج وموثوقيتها.
وفي الختام، يمثل دمج التقنيات الحديثة بالقيم الإسلامية فرصة استثنائية لدعم الهوية الإسلامية في ظل متغيرات العصر. قال الله تعالى :(وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، وهي دعوة للتعاون بين علماء الدين والخبراء التقنيين لبناء مستقبل يسخر فيه الذكاء الاصطناعي لخدمة الدين، ونشر مبادئه السامية. وكما قال (صلى الله عليه وسلم):” أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس” (رواه الطبراني في الأوسط)، فإن استثمار التقنية بطرق مبتكرة لخدمة الأمة يجسد هذا المبدأ العظيم، ويسهم في تحقيق نهضة حضارية تجمع بين الأصالة والمعاصرة.