ينبغى ألا تمر الجريمة الإرهابية التى وقعت فى نيوزيلاندا الجمعة الماضية، واستهدفت مسجدين أثناء صلاة الجمعة، دون تحليل دقيق لأسبابها ومآلاتها وكيفية التعامل مع تداعياتها، إذ من الواضح أن معركتنا مع الإرهاب سوف تطول، ليس فى بلادنا فقط وإنما على اتساع الكرة الأرضية، لقد أراد الغرب أن يحصر الإرهاب فى الإسلام والمسلمين وصك مصطلح “الإرهاب الإسلامى”، ونحن أيضا قمنا بالواجب، وبالغنا فى تقديم أنفسنا للعالم على أننا أهل قتل ودم مع كل جريمة يرتكبها جهول قد لا يحسن فهم الإسلام واستيعاب نصوصه المقدسة، واقتنعنا بأن علينا أن نغيّر من أنفسنا ونحسِّن من خطابنا الدينى حتى ذكّرتنا جريمة نيوزيلاندا بأننا فى الواقع ضحية لون من الإرهاب يستهدف وجودنا وديننا وهويتنا، إرهاب صنعه الغرب ونفخ فيه مثلما فعل مع تنظيم القاعدة وداعش وما شابههما.
لم ننتبه إلى أن القوم لديهم إرهاب أعتى وأبشع، الإرهاب مرفوض على كل حال، لكن الإرهاب عندناـ على الأقل ـ مدان ومحاصر ويعمل تحت الأرض، وغالبا ما ينفجر لأسباب سياسية أو ثأرية، على سبيل المثال كانت جريمة مجلة “شارلى إبدو” ردا على الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبى صلى الله عليه وسلم، كما وقعت جرائم مشابهة ردا على كتاب “آيات شيطانية” لسلمان رشدى أو ردا على المواقف المنحازة لإسرائيل، وهكذا كانت هناك دائما أسباب مباشرة لارتكاب الجريمة، ليس من بينها الإحساس بالتفوق العرقى والعنصرية الدينية والانتقام من الماضى السحيق كما فعل مجرم نيوزيلاندا وهو يتلذذ بقتل ضحاياه أثناء صلاتهم ويبث المشاهد بثا حيا عبر الإنترنت فى سابقة هى الأولى من نوعها من كاميرا مثبتة بخوذة على رأسه!
يقول الإرهابى الاسترالى فى رسالته: نحن قادمون إلى القسطنطينية وسنهدم كل المساجد والمآذن فى المدينة، آيا صوفيا ستتحرر من المآذن وستعود القسطنطينية بحق ملكا مسيحيا من جديد! وأنه لن يتوقف عن قتل المسلمين حتى يوقف تدفق المهاجرين منهم إلى الدول الغربية الذى سماه “غزوا”! مؤكدا أنه ينتقم لملايين الأوروبيين الذين قتلهم الأجانب عبر التاريخ وفى هجمات إرهابية، وأنه يتمنى قتل أكبر عدد ممكن من الغزاة! معربا عن إعجابه بالرئيس الأمريكى ترامب الذى يعتبره “رمزا للهوية البيضاء المتجددة، وأنه يشاركه الهدف فى القضاء على المهاجرين”.
وقد توافقت وسائل الإعلام على أن تصف هذا اللون من الإرهاب بأنه “إرهاب اليمين المتطرف” ولم تتطرق إلى ربطه بالدين المسيحى كما تفعل عادة مع ما تسميه بالإرهاب الإسلامى، ونحن مع ذلك تماما لأننا أول من يعرف أن رسالة المسيح بعيدة كل البعد عن هذا الإجرام، رسالة المسيح كما رسالة محمد عليهما الصلاة والسلام تخرجان من مشكاة المودة والرحمة والسلام والأمن لجميع الناس على وجه الأرض، ومع ذلك فهناك من الكتَّاب من يعترف بأن إرهاب اليمين المتطرف أكثر تهديدا ودموية، وفى هذا الصدد أشار الكاتب الإنجليزى جيسون بروك فى صحيفة الجارديان إلى بحث أجرته رابطة مناهضة التشهير، قالت فى إحدى نتائجه: أنه خلال العقد الماضى كان 3, 73 % من جرائم الإرهاب فى الولايات المتحدة مرتبطا باليمين المتطرف المحلِّى بينما كان 4,23% فقط من تلك الجرائم مرتبطا بالتطرف الإسلامى، على حد قوله.
وليس خافيا أن دعوات النقاء العرقى العنصرى لأصحاب البشرة البيضاء فى الغرب تستهدف المسلمين بشكل أساسى، رغم أنها تنتشر فى مجتمعات قائمة أساسا على الهجرة واجتذاب الأجانب وتحتفى بالتعدد والتنوع، وقد مرت سنوات طوال ظل المسلمون هناك مهدَّدين بالقتل، ومساجدهم ومقابرهم ومنازلهم تتعرض للانتهاك والتخريب بدافع العداء للإسلام والخوف منه “الإسلاموفوبيا” حتى وقعت الجريمة الشنعاء فى نيوزيلاندا فخرجت بيانات وتصريحات ودعوات تتعاطف مع أسر الضحايا، هذه التصريحات قد تكون مفيدة للموتى وربما تبعث على الراحة لدى أقاربهم، غير أن هذا لا يعنى شيئا ملموسا لهؤلاء الذين مازالوا على قيد الحياة ويحلمون بالأمن والأمان.
المسلمون هناك فى حاجة لأكثر من المشاعر والدعوات وهم يتعرّضون يوميا للهجوم والتحقير فى وسائل الإعلام، كما يتعرض دينهم للشيطنة من جانب المشرِّعين الذين يسنّون القوانين وقادة الرأى الذين يؤثِّرون فى الرأى العام، ولذلك فالمطلوب هو الدفاع عن حقوقهم والمساواة الحقيقية فى المواطنة وتطبيق القانون من جانب السياسيين الذين يخلقون بتصريحاتهم العنصرية بيئة يزدهر فيها التطرف والإرهاب.
إن تجاهل الإرهاب العنصرى الأبيض لن يتوقف إلا إذا توقف دعم السياسيين الشعبويين له بحديثهم الدائم عن معاداة المهاجرين الأجانب، وترويجهم لخطاب سياسى محرِّض ضد الإسلام والمسلمين، إلى الحد الذى صار معه هذا الخطاب العنصرى يهدد المجتمعات الغربية والقيم الإنسانية التى قامت عليها مثل الانفتاح والتسامح والحريات الفردية والمساواة بين الأعراق والأجناس والأديان.
بقى لنا أن نسأل إخواننا الذين درجوا على التصايح كلما وقعت جريمة إرهابية بيد مسلمة جهولة، يطالبون بتجفيف منابع الدين، وتجديد وترشيد وتحسين وعصرنة الخطاب الدينى، وإلغاء حصة الدين فى المدارس، وإلغاء خانة الديانة فى الرقم القومى، وحذف آيات الجهاد والسخرية من قادة الفتوحات العظام فى تاريخنا، هؤلاء السادة المتربعون فى فضائيات الإعلام لم نسمع لهم صوتا فى هذه المذبحة العنصرية الآثمة كما لو كانوا فى كوكب آخر! أو كما لو أن الدم الإسلامى مستباح عندهم، ومن تكلم منهم أنحى باللائمة على الشهداء، وما زالوا يردِّدون خطاب الكراهية لدينهم وتراثهم ولا يذكرون إلا الإرهاب الإسلامى وينتصرون للباطل ويصمون أجدادهم بالقتلة الأوائل، لأنهم لا يقدرون إلا على هذا، نسأل الله لنا ولهم الهداية والرشاد.