تحدثت فى المقال السابق عن نعمة “الرضا”، ولم يكن هناك متسع للحديث عن نقيض الرضا وهو “السخط”، الذى هو نقمة نسأل الله العافية منها، وهو من مصائد الشيطان، وباب الشك، وطريق الكفر، فمن يسخط ليس له إلا الهم والغم، والضيق والحزن، وشتات القلب، ومرضه وعدم استقراره، فيعيش قلقاً ناقماً ساخطاً، وكما قال صلى الله عليه وسلم: “ومن سخط فله السخط”، لأنه خاصم الله تعالى في قضائه، والله تعالى ماض في حكمه، عدل في قضائه، يصيب العبد بالمصيبة لأسرار وخفايا هو أعلم بها، وقد يكون فيها من المصالح العظيمة ما لا يعلمها إلا الله، ثم إن المتسخط حرم نفسه أجر الصبر علي المصيبة.
ورد فى الأثر أن عليا بن أبي طالب نظر إلى عدي بن حاتم، فوجده كئيباً فقال: يا عدي، مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: وما يمنعني وقد قتل أبنائي، وفقئت عيني، فقال: “يا عدي إنه من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله”.
ومن بين تلك المصائد: إغواء البشر والتسويل لهم بفعل أمورٍ تتعارض مع الإيمان بالقضاء والقدر، ومؤداها وفحواها الاعتراض على مشيئة الله وإرادته النافذة في خلقه، ومن هذه الأفعال التي تُنافي أصل الرضا بالقضاء والقدر، ما لخصه العلماء فى الآتى:
أولاً: أعمال الجاهلية الأولى، وهى تلك الممارسات التي كان يصنعها الجاهليون قبل البعثة، من الأفعال القبيحة، حين حلول الأقدار المؤلمة من موت عزيز عليهم، يفعلونها اعتراضاً على قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره.. جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية”.
ثانياً: التسخّط من الرزق بالبنات، وهو من رواسب الجاهليّة المُقيتة، إذ كانوا يرون الهبة بالبنات رمزاً للعار، وسبباً للتعيير، حتى كان بعضهم يُعزّي بعضاً بقوله: “آمنكم الله عارَها، وكفاكم مؤنتَها، وصاهرتم قبرَها!”.
ثالثاً: الشروع في الانتحار، وهي مشكلةٌ باتت تسترعي الانتباه، حيث يفعلها من يشعرون بالضياع وعدم الجدوى من الحياة، ويظنّون أن الإنسان يحقّ له إنهاء حياته، وأن روحه هي ملكٌ خالصٌ له، كما ينطوي هذا الفعل على اليأس من تغيير الأقدار والتسخّط من الواحد القهّار، ولذلك غلظ الإسلام عقوبة الانتحار، ورتب الوعيد الشديد على فاعله، قال تعالى: “ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما * ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا” (النساء:29-30)، وعن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم – قال: “كان برجل جراح، فقتل نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة) رواه البخاري.
بالله عليكم هل يخلو أحد من مصيبة أزعجته، أو من مشكلة أقلقته، أو من هم أحرق قلبه، أو من مرض أقعده، أو من ولد غير صالح، أو من دَين أهمه بالليل وأذله بالنهار، أو من مال أتعبه، فهكذا الدنيا مصائب ورزايا، ومحن وبلايا، وللأسف البعض يزيد المصيبة ألما بسخطه وجزعه، وحزنه ونكده، فيخسر دينه ودنياه، أما المؤمن فيتلق ذلك بطمأنينة نفس وعدم سخط، فإن توطين النفس على احتمال المكاره يهوّنها ويزيل شدّتها، وخصوصاً إذا شغل نفسه بمدافعتها بحسب طاقته، وبهذه الطريقة فقط يكون من الراضين بقضاء الله وقدره، جعلنا الله منهم، وعافنا من نقمة السخط.