من المقرر في الإسلام أن الإنسان مستخلف من الله في هذه الأرض لعمارتها سلطه الله عليها، فأعطاه القدرة علي تسخيرها بما وهبه من قدرات عقلية وجسمية قال تعالي: “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ” الأنعام: 165.
وتسخير الأرض للإنسان واستخلاف الله له فيها يقتضيان انتفاع هذا الإنسان بما خلق الله في الكون واستثمار ما في الأرض من خيرات وثمرات علي أنها رزق طيب من الله عز وجل للإنسان فقال تعالي: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” الملك: 15.
والسعي علي الرزق في الإسلام ليس غاية في ذاته بل هو وسيلة ضرورية تقتضيها طبيعة الإنسان وفطرته التي فُطر عليها فهو مخلوق من تراب لا تتماسك بجسده حرارة الحياة، ولا قدرة له علي الحركة واستمرارية العيش إلا بوقود من الغذاء، كلما نفد منه مقدار تبعه مقدار، وللحصول علي الغذاء لابد من العمل فالعمل في الإسلام يقوم علي عدة مفاهيم:
أولًا: المفهوم الشرعي للعمل: عمل المسلم يشمل مصدر رزقه وتصرفاته وأعماله الشخصية في حياته العامة والخاصة وعباداته فكل ما يقوم به الإنسان في حياته يعد عملًا من الأعمال وهو موضع المسؤولية في الحياة الآخرة لا فرق في ذلك بين عمل وأخر قال تعالي: “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ” التوبة:105، وقوله تعالي: “فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” الزلزلة: 7، 8.
بل رفع الإسلام قيمة العمل للجهاد في سبيل الله فقال صلي الله عليه وسلم، عندما كان يجلس مع أصحابه ومر عليهم شاب ذو جلد قوى وقد بكَّر يسعى، عندما علق عليه الصحابة بربح ذلك الشاب لو كان شبابه وجلده في سبيل الله؟! فقال صلي الله عليه وسلم ردًا علي كلامهم: “لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى علي نفسه ليكفيها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله؛ وإن كان يسعي علي أبوين ضعيفين أو ذرية ضعافًا ليغنيهم فهو في سبيل الله؛ وإن كان يسعى تفاخرًا وتكاثرًا فهو في سبيل الشيطان”.
بل رفع الإسلام العمل وقدمه علي التعبّد وهو ما يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم عندما دخل مسجده فرأى رجلا معتكفًا به قائمًا راكعًا ساجدًا فسأل عنه، فقالوا: رجل عابد. فقال: “ومن ينفق عليه” قالوا أخوه يعمل ويعوله ” فقال- صلي الله عليه وسلم- أخوه أعبد منه”.
بل جعل الإسلام من العمل كفارات للذنوب فقال صلي الله عليه وسلم: “إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة”.
ثانيًا: المفهوم الاقتصادي للعمل: من يتتبع النصوص القرآنية والأحاديث النبوية يجدها جميعهًا جاءت تشجع على العمل فقال تعالي: “إِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” الجمعة: 10، وقوله تعالي: “لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ” سورة يس الآية:35، وقوله- صلي الله عليه وسلم-: “ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده”، وقوله: “ما كسب الرجل كسبًا أطيب من عمل يده”.
وجعل الإسلام علي كل مسلم طلب العمل في حدود إمكانياته وقدراته فليس في المجتمع الإسلامي طبقة معطلة وطبقة تعيش علي كتف غيرها، وعالة علي من دونها فقال -صلي الله عليه وسلم-: “لا يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الحبل فيأتي بحزمة من الحطب علي ظهره فيبيعها خيرًا له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه”، وهو ما يظهر من موقف المهاجرين من الصحابة عندما رفضوا أن يتقاسموا المال والتجارة مع إخوانهم الأنصار بغير مقابل عندما قدموا إلي المدينة وعرض عليهم الأنصار ذلك عملًا بما يفرضه واجب النصرة والتعاون بين الأخوة علي الخير، وكان موقف المهاجرين أن يرفضوا العيش دون عمل فينزل بعضهم للعمل في السوق والبعض الآخر للعمل في ميدان الزراعة، ومن مأثورات عمر بن الخطاب رضي الله عنه في واجب العمل قوله: “رحم الله أمرءا أمسك فضل القوم وقدّم فضل العمل”، وقوله: “القوة في العمل ألا تؤخر عمل اليوم إلي الغد”.
ثالثًا: العمل في شريعة الإسلام حق وواجب: بعد أن حض الإسلام علي العمل باعتباره حقًا وواجب فجعل علي الدولة التزام تهيئة العمل المناسب للقادرين عليه فها هو رسول الله عندما جائه أحد يَسْأَلُهُ فَقَالَ- صلي الله عليه وسلم-: “ألَكَ فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَدَحٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ. قَال- صلي الله عليه وسلم-: ائْتِنِي بِهِمَا. قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؟ قَالَ: رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ ؛وَأَخَذَ- صلي الله عليه وسلم- الدِّرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ وَقَال له: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي به، وعندما جاءه بالقدوم شد النبي بيد الشريفة عليه عصى، “القدوم حديد فقط يحتاج إلى عصى”، فالنبي الكريم بنفسه وبيده الشريفة شد عليه عصى وقال: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَلَا أَرَاكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَجَعَلَ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: اشْتَرِ بِبَعْضِهَا طَعَامًا وَبِبَعْضِهَا ثَوْبًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ وَالْمَسْأَلَةُ نُكْتَةٌ فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ”.
فاستدل الفقهاء من هذا الحديث علي وجوب أن توفر الدولة للعامل العمل المناسب له، كما يجب أن يتوافر للعامل الأجر المناسب ولا يبخسه حقه، وقال- صلى الله عليه وسلم-: “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”، بل يجب عليها من خلال أجهزتها المختصة أن تسهر علي مصالح العمال وتحافظ عليها لكى تضمن للعامل حق المعيشة في مستوى لائق وقد حذر النبي من انتقاص حقوق العمال فقال: “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع جزافا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوف منه ولم يعطه أجره”.
وإن كان الإسلام قد كفل للعامل حقه في العمل والأجر المناسب فإنه يقابله التزام العامل بإتقان العمل وبذل الجهد وحسن الأداء والاخلاص فيه فقال- صلى الله عليه وسلم-: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه”، فالإتقان والإخلاص في العمل من أحب ما يتقرب به العبد إلي ربه، فإن أخل العامل بالتزاماته فأفسد المنفعة وأهلكها بخطئه أو إهماله كان ضامنًا.