حديثنا اليوم عن فضيلة من الفضائل وخُلُق من الأخلاق الحسنة الحميدة، والتي يُعبّر فيها الشخص بالقول والفعل عن آرائه ومشاعره ومعتقداته ورغباته دون رياء أو نفاق ألا وهو الإخلاص
ويُعَدُّ الإخلاص من أهم أعمال القلوب، وأعظمها قدراً وشأناً، فبحسب الإخلاص يُقبل عمل العبد أو يُرَدّ عليه، وهذا الدين كله يقوم على الإخلاص، يقول الله: {وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، بل أمر اللهُ النبيَّ ذاتَه بإخلاص العبادة لله، إذ قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}، وأمر الله عباده بإخلاص الدعاء له؛ فقال: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وعن سيدنا رسول الله أنه قال: ((سألتُ جبريلَ عَنِ الإخلاصِ ما هوَ؟ فقال: سألتُ عنهُ ربَّ العزةِ. فقال: الإخلاصُ سرٌ مِنْ أسرارِي أودعتُهُ قلبَ مَنْ أحببتُ مِنْ عبادِي)).
إن إخلاص العمل لله من أعظم أصول هذا الدين، فهو مسك القلوب وعماد الدين، مدار الفلاح كله عليه، فيه رضا الرحمن وراحة القلوب ونجاة النفوس، وهو ركن العمل وأساسه، ولُبُّ الأعمالِ وروحها، وله ثمراتٌ عظيمة في دنيا المسلم وآخرته؛ إذ بالإخلاص تطمئن القلوب، وتهدأ النفوس؛ لأنها تعامل علام الغيوب، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والذي يعلم السر وأخفى، فيرجون بعملهم كله وجه ربّهم، شعارهم دائماً قوله: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}.
فالإخلاص، أن تكون الحياة، الممات، الصلاة، النسك والعبادة كلها خالصة لوجه الله، {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وإذا علم العبد أن كل نعمة أصابته، وكل فضل ناله، وكل خير جاء له، وكل شر صُرف عنه، وكل سوء نجا منه، أن فاعل كل ذلك على الحقيقة هو الله، وإذا أيقن أن الله سبحانه هو الخالق الرازق، صرف العبادة كلها إليه وحده دون سواه، فكل حركة وسكنة إنما هدفها الأعلى رضا الله، {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ}.
كما أن الإخلاص لله تعالى في العمل ينجّي صاحبه في الدنيا والآخرة، فعن أمِّ المؤمِنينَ أمِّ عبدِاللهِ السيدة عائشةَ- رضي الله عنها- قالَ رسول الله: ((يغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ. قَالَتْ: قلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهمْ أسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟! قَالَ: يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيّاتِهمْ)).
ومن هنا يتبيّن لنا عظيم أمر الإخلاص وأنه أساس قبول العمل، وأن نوايانا هي التي تشكّل أعمالنا وتوجّهها، والعمل مهما تكن ضخامته وخطره، لا يكون جليلاً ولا يُكتب له القبول الحق إلا بقدر ما تكون النوايا جليلة وصادقة.
ولقد حرص السلف الصالح على ضرب أروع الأمثلة في الإخلاص لله وإخفاء العمل عن الخلق، ومن ذلك أن مسلمة بن عبدالملك كان على رأس جيش للمسلمين يحاصرون قلعة عظيمة للروم، ولكن القلعة استعصت على جيش المسلمين مما ساعد جنود الروم، فأخذوا يقذفون جيش المسلمين من أعلاها، وفي الليل قام أحد جنود المسلمين بفكرة عظيمة، إذ أنه تخفى بمفرده إلى أن وصل باب القلعة وظل ينقب فيه حتى استطاع أن يُحدث به نقباً وعند الغد دخل هذا البطل من النقب وقام بفتح الباب فتدافع المسلمون وتسلّقوا أسوار القلعة، وتحقّق لهم النصر.
وبعد المعركة جمع القائد الجيش، ونادى بأعلى صوته: (مَن أحدث النقْب في باب القلعة فليخرج لنُكافئه)، فلم يخرج أحد ونادى أيضا في اليوم الثاني ولم يخرج أحد، وفي اليوم الثالث، وقف وقال:
(أقسمتُ على من أحدث النقْب أن يأتيني أي وقت يشاء من ليل أو نهار).
وعند حلول الليل والقائد يجلس في خيمته، دخل عليه رجلٌ ملثّم، فقال مسلمة: هل أنت صاحب النقب؟! فقال الرجل: إنَّ صاحب النقب يريد أن يبرّ قسم أميره ولكن لديه ثلاثة شروط حتى يُلبّيَ الطلب. وهي ألا تسأل عن اسمه، ولا تكشف عن وجهه، ولا أن تأمر له بعطاء. فقال مسلمة: له ما طلب. عندها قال الرجل: أنا صاحب النقب.
ثم عاد أدراجه مسرعاً واختفى بين خيام الجيش
فكان مسلمة بعد ذلك يقول في سجوده: (اللهم احشرني مع صاحب النقْب).
نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص له في الأقوال والأعمال