الحمد لله الذى جعل من أيام العام مواسم للخير والبركات, وفرصة للنفحات والرحمات, فضل بعض الشهور على بعض فجعل شهر رمضان أفضل شهور السنة, فيه نزل القرآن, وفيه فٌرض الصيام, تلك العبادة الربانية, والمنحة الإلهية, نسبها الحق لنفسه نسبة تشريف وتكريم وتعظيم, فقال كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي.. وأشهد أن لا إله إلا الله جعل ليلة القدر خير الليالي, لاشتمالها على أعظم منحة وهبة لم توهب لأمة من قبل, فضلها وخيرها, لا يضاهيها ألف شهر, ولا يساويه رجل خرج بنفسه وماله وسلاحه لإعلاء راية الحق! وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خير من صلى وصام, وتعبد لله وقام, وبعد فحديثنا اليوم عن فضل ليلة القدر, ولكن قبل الولوج إلى فضل ليلة القدر وشرفها لا بد الوقوف ابتداء مع فضل العشر الأواخر!
العشر الأواخر هي عشر الجوائز, عشر العفو, فيها ليلة القدر خير من ألف شهر, عشر المنحة والبركة, عشر الخيرات والبركات والهبات, من حرم خيرها فقد حرمها, عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» ( متفق عليه) وفي رواية لمسلم عنها قالت: «كان النبي يجتهد في العشر الأخير ما لا يجتهد في غيره» وكان النبي يخص العشر الأواخر في رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر. وأخرج الديلمي عن أنس: «إنَّ الله تَعَالَى وَهَبَ لأُمّتِي لَيْلَةَ القَدْرِ وَلَمْ يُعطِها مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ» والطبراني عن عبادة بن الصامت: «التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ فإنَّهَا وتْرٌ فِي إحْدَى وَعِشرينَ، أوْ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ أوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ تِسعٍ وَعشرينَ أَوْ آخِر لَيْلَةٍ، فَمَنْ قَامَهَا إيماناً وَاحْتِساباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخرَ» وقيل : ليلة القدر ليلة بلجة لا حارة ولا باردة ولا سحاب فيها ولا مطر ولا ريح، ولا يرمي فيها بنجم من علامة يومها أن تطلع الشمس لا شعاع لها. و أخرج النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: «قُولِي اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْو فَاعْفُ عَنِي» وأخرج الديلمي عن عائشة: «مَنْ اعْتَكَفَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيماناً واحْتِساباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» و أخرج ابن ماجه والبيهقي عن ابن عباس: «المُعْتَكِفُ يَعْكِفُ الذُّنُوبَ وَيُجرَى لَهُ مِنَ الأجْرِ كَأَجْرِ عَامِلِ الحَسَنَاتِ كُلِّهَا» و عن الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ الله يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده»، والبيهقي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: «مَن اعْتَكَفَ عَشْراً في رَمَضَان كَانَ كَحَجَّتَيْنِ وَعُمْرَتَيْنِ»
ثانيا: ليلة القدر وشرفها:
لماذا سميت بهذا الاسم أختلف أهل التأويل في مسمى ليلة القدر إلى أكثر من رأي وكل له وجهته
1- قيل بأنها سميت بهذا الاسم لأن فيها تقدير الأرزاق والمقسوم والمحسوم, والأعمار والآجال, قال تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) قال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان …
2- وقيل سميت ليلة القدر لشرفها وعظمها عند الله سبحانه, ولشرف وعظم ومكانة وقدر من يقومها لله إيمانا واحتسابا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: منْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ متفقٌ عَلَيْهِ. أي من قامها لله سبحانه بلا رياء أو سمعة, أو طلب للعجب, يحتسب الأجر من الله وحده, فقد شرفه ربه وعظمه وأدناه واصطفاه عما سواه, فكان قدره عند الله بقدر حبه لله, وإجلاله وتعظيمه وتوقيره واجتهاده في تحصيل تلك الليلة إيمانا واحتسابا, فيعتزل النساء, ويعتزل الدنيا كلها, ولا يشغل إلا بمولاه, فيخر له الجبين, واقفا علي عتبات الرجاء, لسان حاله يقول: يا حي يا قيوم يا غياث يا مغيث, يا جبار يا قهار يا غفار, يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم قد نام خلقك حول البيت وانتبهوا وأنت يا حي يا قيوم لم تنم …
3- قيل بأنها سميت بهذا الأسم لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم في تلك الليلة, وهو مأخوذ من القدر أي الضيق, وذلك من قول الله تعالى: ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ … وقوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ.. أي نضيق عليه ونتركه في سعة من أمره!
ولا مانع من الجمع بين تلك المعان كلها, فهي ليلة الشرف والعظمة يباهي الله ملائكته بخلقه المتضرعين القائمين العابدين الساجدين, وكذلك هي شرف لمن قامها ايمانا واحتسابا, وفيها توزع الأقدار من اللوح المحفوظ, وفيها تضيق الأرض من كثرة الملائكة المنزلة فيها كما قال الحق سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ..
إن الذكي الفطن هو من ينبته للخواتيم, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ يُخْتَمُ له عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْتَمُ له عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ. ( رواه مسلم) وزاد الدار قطني في روايته ( إنما الأعمال بالخواتيم)
فهذه أيام التشمير والجد والعمل, وشد المئزر كما بين النبي صلى الله عليه وسلم: يروى أن أنَاسًا مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ أَتَوْا أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيَّ فِي مَنْزِلِهِ وَكَانَ غَازِيًا بِأَرْضِ الرُّومِ فَوَجَدُوهُ قَدِ احْتَفَرَ فِي فُسْطَاطِهِ ( خيمته) حُفْرَةً وَوَضَعَ فِي الْحُفْرَةِ نِطْعًا (بساط أو فرش من الجلد ) وَأَفْرَغَ مَاءً فَهُوَ يَتَصَلَّقُ (يتقلب فيه وهذا كناية عن شدة الحر ) فِيهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَ لَهُ النَّفْرُ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى الصِّيَامِ وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَقَدْ رَخَّصَ اللهُ تَعَالَى لَكَ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ وَالْغَزْوِ فَقَالَ: «لَوْ حَضَرَ قِتَالٌ لَأَفْطَرْتُ وَتَقَوَّيْتُ لِلْقِتَالِ إِنَّ الْخَيْلَ لَا تَجْرِي الْغَايَاتِ وَهِيَ بُدْنَى (أي سمينة بدينة كناية عن التخفف ) إِنَّمَا تَجْرِي وَهِيَ ضَمِرَاتٍ (أي خفيفة والضامر ملتصق البطن النحيف ) إِنَّ بَيْنَ أَيْدِينَا أَيَّامًا لَهَا نَعْمَلُ»
وقيل : العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات! ويقول الحسن البصري: أحسن فيما بقى يغفر لك مامضى، فاغتنم مابقي فلا تدري متى تدرك رحمة الله.
أخلاقنا في القدر وفي العشر الأواخر:
أولا: التوبة النصوح والأوبة فلعل رمضان لا يعود مرة أخرى, وربما لا تتكرر تلك الفرصة مرة ثانية, فالخائب الخاسر من فاته رمضان ولم يغفر له, ومن فاتته ليلة القدر ولم يغفر له, ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغِمَ أَنفُ (خاب وخسِر) رجلٍ ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبل أن يُغفَرَ له، ورغمَ أنفُ رجلٍ أدرَكَ عندَه أبواهُ الكِبَر فلم يُدْخِلاهُ الجنة) رواه الترمذي) فخسارة المال تعوض وخسارة الولد تعوض, وخسارة الشهادة تعوض وخسارة أي غرض دنيوي تعوض, أما خسارة الدين فكيف تعوض؟! كيف يعوض رمضان؟ أو كيف يعوض من ترك التروايح والتهجد والقيام مثله كمثل الأنعام لا يسمع ولا يعقل ولا يتدبر, فعلي العاقل أن يغتنم تلك المنح والهبات وأن يعود لمولاه وأن يكثر من الاستغفار والذكر والتسبيح والصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, والذكر ليس مجرد سريان اسم الله على الله وحسب, بل العلم ذكر والصلاة والذكر والاستغفار ذكر, وكل فعل يقصد به وجه الله ذكر.
ثانيا: إياك والرياء وأن يدخلك العجب بعملك, فتدخل تحت قول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ.. وقوله سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورً… وقوله سبحانه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا… قال بعض أهل العلم: العمل الحسن هو ما توافر فيه شرطين الصواب والإخلاص والصواب أن يكون وفق مراد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان وفهم علماء الأمة في كل مصر وعصر لأن لكل عصر فقهه ومتطلباته, والشرط الثاني أن يكون خالصا لوجه الله سبحانه وإلا كان عمله كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . فيأتي بأعمال بر وخير ونفقات وزكوات وصدقات, وقد صارت كمن يغرس في الصخر الصلد, أو يزرع في الأرض بور, مهما زرع لا يحصد ومهما أنتج لا يثمر, لسوء نيته ولا ابتغاءه الثناء والأجر من الناس فيكون عمله هباء منثورا لا قيمة له ولا جزاء له إلا النار, ويدخل تحت قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ، يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟، قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ وَتَقُولُ [ص:137] لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ , وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْيُ، قَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ، فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ» ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكْبَتِي، فقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (صحيح ابن حبان )
ثالثا: إياك والشحناء: الأصل في الشريعة الإسلامية المؤاخاة والمحبة المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يسلمه, وليس من أمة سيدنا رسول الله من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع, وملمح عظيم يؤصل له رمضان المعظم الا وهو التكافل واحساس الغني بالفقير, هذا هو المجتمع الذى أراده سيدنا رسول الله فيه الود والعطف والرحمة, تنبذ فيه الشحناء والبغضاء والكراهية, يغفر في تلك الأيام لكل قانت وراكع وساجد وسائل, إلا المشاحن, إلا الذي بينه وبين أخيه ضغينة, وشحناء, وتلك فرصة عظيمة, أن تعود القلوب للمحبة والصفاء, فليس في الدنيا بقاء, وسعيك في حاجة أخيك خير لك من أن تعتكف في مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك الذى تعدل فيه الصلاة ألف صلاة!! فلك أن تتخيل سعيك في حاجة أخيك أفضل من اعتكافك في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم شهرا الصلاة فيه بألف والذكر فيه مضاعف ولو قلنا خمس صلوات فقط في اليوم والليلة بخمسمائة ألف في ثلاثين يوما بمائة وخمسين ألف هذا على أقل تقدير أي أن سعيك في حاجة أخيك وطردك الجوع عنه, وسترك عورته, وفك لكربته أفضل من وأعظم في الأجر من مائة وخمسين ألف صلاة!!! فتلك فرصة وغنيمة عظيمة لمن كان له قلب, فأخاك أخاك, ورحمك رحمك, وأهلك أهلك, فمن لا أخ له كساع في الهيجاء بلا رمح, ورام في الحرب بلا سيف, وسباق في السبق بلا خيل !!
رابعا: بر والديك, من أعظم العبادات والقربات, قرنها الله بعبادته, وجعل جزاء العقوق ولوج النار, فعاق والدايه لن يدخل الجنة ولن يجد ريحها, العاق لوالديه لا يكلمه الله ولا يزكيه ولا ينظر إليه, العاق لوالديه لا يجوز الصراط ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم, ولا يشرب من حوضه, العاق لوالديه لا يرفع عمله, ولا تقبل منه صلاة ولا صرف ولا عدل, العاق لوالديه يحرم خير ليلة القدر, وتغلق دونه أبواب السماء, فإن أردت أن يرفع عملك, وتفتح لك أبواب السماء في ليلة القدر وغيرها بر والديك, والزم نعليهما, وكن خادما لهما ولنا في هذا الرجل الذى وقف علي باب أبويه باللبن يستحي أن يوقظهما وأولاده يبكون جوعا, وهو يفضل أبويه على أولاده وعلى نفسه العبرة والعظة!!
سادسا صدقة الفطر: طهرة للصائم من اللغو والرفث وكان النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان أجود ما يكون, يطعم الطعام ويلين الكلام, فطوبي لمن به تأسى وعلى نهجهه تمسك, طوبي لمن أطعم الطعام على حبه, مسكينا ويتميا وأسيرا لوجه الله لا يريد جزاء ولا شكورا, له في الجنة غرفا يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها, يبشر بالجنات والنعيم المقيم ويزوج من الحور حيث شاء ويكلمه الله كفاحا, وله بكل صدقة سبعمائة والله يضاعف لمن يشاء.
واختم وأقول أن أهل العلم اجتهدوا وروا أن زكاة الفطر تجوز عينا ونقدا, وإن كنت أرى أنها نقدا أصوب للفقير وذلك من وجوه:
1- أن النقد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان في حكم المعدوم وأن أول عملة ضربت كانت في عهد عبد الملك بن مروان أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من ستين سنة!!
2- أن الأئمة أتفقوا على كون زكاة الفطر من غالب قوت البلد وغالب قوت بلادنا اليوم النقود!
3- الشريعة دوما في صف الفقير وقد بينت التجربة أن من مصلحة الفقير النقد كونه يستطيع أن يأتي بما شاء لأولاده وأهله!ّ
4- من يقول أنتم تقلدون شخص ونحن نقلد النبي صلى الله عليه وسلم أقول أولا أنت تهدم أصل من أصول الدين وهو الاجتهاد وهو أساس الشريعة, ثانيا بقولك هذا لا تقلد الشافعي ومالك وأحمد رضي الله عنهم!!
5- نهجنا الكتاب والسنة بفهم علماء الأمة المعتبرين في كل مكان وزمان فلكل زمان رجاله وظروفه ومقتضياته
6- بقولكم ما فعلها رسول الله قلنا: أن الأصوب للفقير حينها والغالب من القوت وأسلوب المعاملة كان البر والشعير والزبيب ثم أنه لو قلنا بهذا فما قولكم بجمع القرآن ونقطه وتشكيله وما قولكم في صلاة التراويح كل ليلة وما قولكم في جواز إخراج الزكاة للمؤسسات الخيرية وغيرها من مستجدات العصر!
وأخيرا نقول من أراد أن يتوقف عند النص له ذلك ومن أراد أن يأخذ بالفقه والفهم والأصوب له ذلك فلا تضيقوا واسعا وفرجوا على المساكين وذوي القربي والأرحام في تلك الأيام وسلوا الله القبول والإخلاص.